The Policy Initiative

  • eng
    • share
  • subscribe to our mailing list
    By subscribing to our mailing list you will be kept in the know of all our projects, activities and resources
    Thank you for subscribing to our mailing list.
11.28.22

منصّة صيرفة: ملاذٌ أخير للمساعدة الاجتماعية؟

سامي زغيب,
وسيم مكتبي

اجتمع الانهيار المفاجئ للمداخيل والمدّخرات، وشلل الحركة الاقتصادية، والوَهَن الذي يعتري نظام الحماية الاجتماعية، على نحوٍ مدمّر دفع الشعبَ اللبناني إلى شفير أزمة إنسانية. فقد وصل معدّل الفقر المتعدّد الأبعاد في البلاد إلى 82%، ما اضطرّ الأسر إلى اعتماد نمطٍ من التكيّف السلبي لجأت من خلاله إلى التضحية بأمور أساسية مثل التغذية والصحة والتعليم1. ويواجه لبنان حاليًّا خطرًا داهمًا يتمثّل في تدهورٍ اجتماعي كارثي سيمتدّ لأجيالٍ وأجيال.

بموازاة هذا الخطر الداهم، تنكبّ النخب السياسية على تخريب وتعطيل أي إصلاحات، وآخرها موازنة 2022 ومشاريع قوانين السرية المصرفية والكابيتال كونترول2. وبالرغم من تدهور الظروف المعيشية، أخّرت الحكومة اعتماد استراتيجية الحماية الاجتماعية بذريعة إعادة صياغتها، علمًا أن تعامل الدولة مع مسألة الحماية الاجتماعية انصبّ منذ بداية الأزمة على البطاقة التمويلية التي لم يتمّ إطلاقها بعد، وشبكة الأمان الاجتماعي المموَّلة بقرض من البنك الدولي والتي شهد إقرارها مماطلةً على مدى عامين3.

لا تبالي النخب السياسية اللبنانية بإنشاء نظام قائم على الحقوق تقوده الدولة ويؤسّس لعقد اجتماعي سليم. فلعقود من الزمن، قوّضت الطبقة الحاكمة الدور الاجتماعي للدولة واختارت بدلًا من ذلك توزيع المنافع الاجتماعية عبر قنوات هدفها تعزيز امتدادها وشبكات المحسوبية التي ترعاها. وفي خضمّ هذه الأزمة، قامت هذه النخب فعليًا "بالتعاقد من الباطن" مع مصرف لبنان لتقديم المساعدة الاجتماعية من خلال دعم سعر الصرف بطريقةٍ ملتوية تؤدي إلى استنزاف احتياطاته من العملات الأجنبية لصالح كبار المستوردين وأصحاب الثروات النقدية.

يمكن القول إنّ مصرف لبنان كان، منذ بداية الأزمة، المزوّد الرئيس لخدمات المساعدة الاجتماعية في البلاد، وهو دور لا يقع خارج نطاق اختصاصه المألوف فحسب، بل أدى أيضًا إلى استنزاف ثلثي الاحتياطيات الأجنبية للبلاد منذ آب 2019. بالتحديد، قام مصرف لبنان بتدخّلين يندرجان خارج اختصاصه.

أولًا، قدّم البنك المركزي الدعم من خلال توفير ائتمانات من أجل استيراد القمح والوقود والأدوية وعدد من المواد الغذائية، بما فيها الدواجن والألبان، على سعر الصرف المدعوم4، ما أدى إلى استنزاف 286 مليون دولار شهريًا من الاحتياطيات الأجنبية؛ واستمر ذلك حتى أيلول 2021 5. وفي ظل الغموض الذي يلف حسابات مصرف لبنان، ثمة تباينات كبيرة في تقدير تكلفة هذا الدعم فيما تشير التقديرات إلى أنها تراوحت بين 6 مليارات و12 مليار دولار6. فعليًّا، تراجعت قيمة الاحتياطيات من 31 مليار دولار في آب 2019 إلى أقل من النصف حين رُفع الدعم عن الاستيراد في أيلول 2021، وتحديداً إلى 14.6 مليار دولار. كما أنّ هيكل الدعم لم يكن مكلفًا فحسب، بل تنازلياً أيضًا، حيث استفادت منه الأسر الميسورة بمقدار أربع مرات أكثر من 50% من السكان الأكثر فقرًا7. ويعود ذلك إلى الطبيعة الشاملة للدعم، بحيث تملك الأسر الميسورة الإمكانات لاستهلاك الواردات الأكثر تكلفةً. 

ثانيًا، توفر منصّة "صيرفة" التي يديرها مصرف لبنان "برنامج" مساعدة اجتماعية يصل فعلياً إلى الموظفين المتفرّغين في القطاع العام بالإضافة إلى الجمهور الأعمّ القادر على الوصول إلى النظام المالي المعطّل في البلاد. وقد تحوّلت المنصة التي كانت الغاية منها مراقبة وتنظيم عمليات صرف العملة8 إلى فرصة استغلّتها بعض الأُسر والشركات للمتاجرة، أي لتحقيق "الأرباح" عن طريق شراء الدولارات بسعر منصة صيرفة وإعادة بيعها بسعر السوق.

منذ كانون الثاني 2022، وسّع مصرف لبنان نطاق عمل منصّة "صيرفة" بشكل كبير، حيث طلب إلى البنوك التجارية إجراء عمليات صرف العملة بدون سقوف شهرية. ومنذ مطلع 2022 حتى شهر آب، بلغ متوسط الفارق بين السعر المعتمد على منصّة "صيرفة" وسعر السوق 12%. شهد هذا الفارق تقلّبات ملحوظة، مرتفعاً من 2% في أواسط شباط وأوائل آذار إلى 26% بعد أسبوع واحد من الانتخابات النيابية التي جرت في أيار. أفسح هذا التفاوت الكبير مجالاً للمتاجرة، بمعنى أنّ الأشخاص القادرين على الوصول إلى المنصّة تمكنوا من جني الأرباح من خلال شراء الدولار عبر أرصدتهم المصرفية بالليرة اللبنانية على سعر "صيرفة" وإعادة بيعه وفق أسعار السوق الأعلى. وفي حين شكّلت هذه العمليات دعمًا لمداخيل المواطنين التي تدهورت قيمتها، أفادت بشكل غير متناسب أولئك القادرين على الوصول إلى مبالغ نقدية كبيرة بالليرة اللبنانية وموظفي القطاع العام الذين يتقاضون رواتبهم كاملة وفق سعر "صيرفة"، وبالتالي تحوّلت المنصّة إلى أداة للدعم الانتقائي.

وصلت قيمة المتاجرة عبر منصّة "صيرفة"، بحسب تقديرات فريق مبادرة سياسات الغد، إلى 885 مليون دولار بين كانون الثاني وآب 2022 9، وذلك بناءً على أحجام التداول على المنصّة والفارق اليومي بين سعريّ الصرف. والمثير للاستغراب أنّ الخسارة التي تكبّدها البنك المركزي على منصة "صيرفة" خلال هذه الفترة تعادل نحو 3.5 أضعاف قيمة قرض البنك الدولي لتمويل برنامج شبكة الأمان الاجتماعي في حالات الطوارئ.

إنّ البديل عن هذا التدخل الذي قاده البنك المركزي واضح لا لبس فيه. فجزء صغير من المبالغ المستنزفة من الاحتياطيات الأجنبية منذ آب 2019 والمقدّرة بنحو 20 مليار دولار كان كفيلًا بتمويل أرضية الحماية الاجتماعية التي اقترحتها منظمة العمل الدولية واليونيسف، والمقدّرة تكلفتها بـ 500 مليون دولار سنويًا10، ولكانت هذه الأموال أمّنت مساعدات اجتماعية تطال الشرائح الأضعف في كامل دورة الحياة، بما فيها الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السنّ.

توفر استراتيجية الحماية الاجتماعية التي تعهّدت حكومة تصريف الأعمال في أيار 2022 بتعديلها واعتمادها في غضون ستة أشهر أساسًا متينًا لإصلاح النظام الحالي وتحويله من نظام قائم على المحسوبية إلى نظام قائم على الحقوق11. ومن بين الإصلاحات الأساسية التي تنص عليها الاستراتيجية تأمين معاش تقاعدي إلزامي، وهي خطوة كان المجلس النيابي السابق قد وضعها جانباً. ومن شأن إقرار مشروع قانون المعاش التقاعدي أن يضمن تأمين الدخل للمتقاعدين وأن يساعد في حماية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي- الذي يُعدّ شبكة الأمان الرئيسية في البلاد للعاملين في القطاع الخاص- من الانهيار الوشيك12.

إن ما يعانيه الواقع الاجتماعي في لبنان حاليًّا لا يُعزى لمعوّقات تقنية أو قيود مالية بقدر ما هو نتيجة اختيار النخب السياسية المتعمَّد لسياسات هدفها الحفاظ على عقد اجتماعي معتلّ يحمي نظامًا مشوّهًا يضمن مصالحها.

 

 


1 الاسكوا. أيلول 2021. "الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان (2019-2021)، واقع أليم وآفاق مبهمة".

2 مكتبي و.، س. زغيب، س. عطالله. تموز 2022. "أفقر لتسود، كيف استجابت الدولة اللبنانية للأزمة المالية؟" مبادرة سياسات الغد. "لوحة المعلومات التفاعلية للأزمة المالية في لبنان".

3 مكتبي و.، س. زغيب، س. عطالله. تشرين الثاني 2022. "نجاةٌ بأعجوبة: أفلت المشروع الطارئ لشبكة الأمان الاجتماعي المخصّص للبنان من قبضة الطبقة السياسية". مبادرة سياسات الغد.

4 مصرف لبنان. التعاميم الوسيطة رقم 13152/2019، 13228/2020، 13245/2020، 13331/2021، 13355/2021، والتعميم الأساسي رقم 13384/2022.

5 البنك الدولي، كانون الأول 2020. "دراسة حول إصلاح نظام الدعم الحكومي"، مجموعة البنك الدولي.

6 شهيب ك.، نيسان 2021. "عبء برنامج الإعانات غير المستدام في لبنان". معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط.

7 موكو ي.، ر. جرادات. كانون الأول 2020. "التقدم السريع نحو الهاوية: في ظلّ عدم وجود مظلة إنقاذ ". اليونيسف.

8 مصرف لبنان، التعميم الأساسي رقم 13236/2022

9 يلاحظ أن مصرف لبنان ينشر حجم التداول بشكل منتظم لكنه لا يشير إلى الحصص المشتراة والمباعة. ونظرًا لأن سعر "صيرفة" أقل من سعر السوق، فإننا نفترض أن حجم التداول يشكل بأغلبيته عمليات شراء الدولار من خلال منصة "صيرفة".

10 منظمة العمل الدولية واليونيسف. أيار 2021. "نحو أرضية حماية اجتماعية في لبنان". منظمة العمل الدولية.

مكتبي و.، س. زغيب، ر. اغناطيوس، آب 2022. "النوايا وحدها لا تكفي: لا بد أن يعتمد لبنان استراتيجية وطنية للحماية الاجتماعية"، مبادرة سياسات الغد.11

12 مرهج ك.، ك. شهيب، آذار 2022. "القصة الكاملة وراء الانهيار الوشيك للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي". موقع The Public Source.

From the same author

view all

More periodicals

view all
Search
Back to top