The Policy Initiative

  • eng
    • share
  • subscribe to our mailing list
    By subscribing to our mailing list you will be kept in the know of all our projects, activities and resources
    Thank you for subscribing to our mailing list.
08.19.25

الصّراع على سيادة لبنان يتجاوز مسألة السّلاح فقط

جوزيف ضاهر,
سامي زغيب,
سامي عطاالله

مقدّمة 

في مطلع آب 2025، وافق مجلس الوزراء اللبنانيّ على قرار مِحوريّ تاريخيّ، وإن كان بالغ الانقسام: تكليف الجيش اللبنانيّ بوضع خطّة تهدف إلى حصر جميع الأسلحة بيد الدولة بحلول نهاية العام. وقد عُدَّ هذا القرار، على نطاق واسع، الخطوةَ الرسميّة الأولى نحو نزع سلاح حزب الله، الأمر الذي أثار ردود فعل فوريّة؛ إذ انسحب أربعة وزراء شيعة من الجلسة الحكوميّة، في حين ندَّدَ قادة حزب الله بالقرار وعدّوه «خطيئة جسيمة»، ملوِّحين بأنّ أيّ محاولة لفرضه تحت النيران الإسرائيليّة ستُواجَه بالردّ.

جسّد هذا الحدث معضلة السيادة في لبنان. فبدعمٍ من المانحين الغربيّين، تسعى الحكومة إلى توحيد القوّة، على أساس أنّ السيادة تبدأ بالسلطة القسريّة. غير أنّ هذه اللحظة تكشف المشكلة الأعمق: دولةٌ هشّة، أنهكتها الحروب والتدخّلات الخارجيّة والشلل السياسيّ، تحاول أن تدّعي السيادة بمرسومٍ إداريّ. 

غالبًا ما تُعرّف السيادة بأنّها احتكار الدولة لاستخدام القوّة واستقلالها في الشؤون الخارجيّة، وذلك على أساس مؤسّسات فعّالة، واستقرار ماليّ، وشرعيّة. غير أنّ الحقيقة تظهر أنّ لبنان يفتقر إلى هذه العناصر بشكلٍ كلِّي. وهذا ما يجعل السلطة القسريّة الفاقدة المصداقيّة المؤسَّسيّة، عاجزة عن السيطرة على الأراضي أو كسب الولاء؛ وبالتالي يبرز عدم تمكُّن جيش من أن يدافع عن دولة غير قادرة على الحكم.

إنّ الرؤية الأكثر صلابةً وديمومةً للسيادة هي تلك التي تُبنى من الأسفل، بدءًا من قدرة الدولة على تقديم الخدمات، وضمان الحقوق، وإشراك المواطنين في الحياة السياسيّة. وفي حالة لبنان، لا يقتصر السؤال على مَن يحمل السلاح، إنّما ينسحب ليستشفّ ما إذا كانت الدولة تُعَدّ شرعيّة وقادرة وشاملة.

إنّ المقاربة الأمنيّة الراهنة، القائمة على أولويّة القوّة العسكريّة، معيبة في جوهرها، إذ لا يمكن للبنان أن يعيد بناء سيادته من فوق، من خلال توحيد السلاح فقط؛ ذلك أنّه ينبغي للسيادة أن تُرسَّخ على أسس الشرعيّة السياسيّة، والاستقلال الماليّ، والقدرة المؤسّساتيّة. ويبدأ ذلك من مواجهة حقيقة موقع لبنان الحاضر: دولة محاصَرة على عدّة جبهات، عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، بحيث لا يمكن فصل مسارها نحو السيادة عن التهديدات التي تطوّقها والوسائل التي تمتلكها.

السيادة اللبنانيّة تحت الحصار

يتطلّب فهم سببِ عجزِ توحيدِ القوّةِ عن الإيفاءِ بالغرض، أوّلًا، إدراكَ حجمِ الضغوطِ التي يواجهها لبنانُ اليوم وطبيعتِها. ثمّة أربعةُ تحدّياتٍ متداخلة تُحدِّد هذه المرحلةَ التاريخيّة.

أوّلًا، خلّفت حربُ إسرائيل على لبنان عام ٢٠٢٤ أكثر من ٤٠٠٠ قتيل، بينهم ٣١٦ طفلًا، وتسبّبت في تهجيرِ أكثر من مليون إنسان. وبالرغم من وقفِ إطلاقِ النار في تشرين الثاني، ارتكبت إسرائيل أكثر من ٥٠٠٠ خرقٍ، وهي لا تزال تحتلّ مواقع جنوب نهرِ الليطاني. وإلى جانب ذلك، تواصل إسرائيل انتهاك السيادةَ اللبنانيّة وتنفّذ عمليّات اغتيال تخطّى عددها الثلاثمئة منذ إعلانِ الهدنة، كلُّ ذلك بدعمٍ مستمرٍّ، مباشرٍ أو مُضمر، من الولايات المتَّحدة والقوى الغربيّة.

ثانيًا، لم يؤدِ سقوط نظام الأسد في كانون الأوّل 2024 إلى سدّ الفجوة الأمنيّة على الحدود السوريّة. ففي آذار، اندلعت اشتباكات بين عشائر لبنانيّة في المناطق الحدوديّة وقوّات مسلَّحة موالية للسلطات السوريّة الجديدة بقيادة هيئة تحرير الشام.

ثالثًا، يواصل حزب الله عمله بصفته قوّة أمنيّة موازية ونافذة، مندمجة في الإستراتيجيّة الإقليميّة الإيرانيّة، ومترسّخة في مناطق أهملتها الدولة.

وأخيرًا، باتت المساعدات العسكريّة الغربيّة، مثل مبلغ الـ95 مليون دولار الذي أفرجت عنه الولايات المتّحدة في آذار، مشروطةً، بشكل متزايد، بدور الجيش اللبنانيّ في «احتواء حزب الله وإيران»، ممّا يقيّد استقلاليّة القرار السياسيّ.

عند جمع هذه الديناميكيّات، يتّضح أنّ النقاش حول السيادة لا يقتصر على وضع سلاح حزب الله، إنّما يتمحور حول مدى قدرة الدولة اللبنانيّة على اتّخاذ قرارات مستقلّة في وجه لاعبين محلِّيّين نافذين وشروط خارجيّة. فالاستقلال هنا لا يتوقّف على الإرادة السياسيّة وحدها، بل على القدرة الفعليّة على التنفيذ.

جيش يتجاوز قدراته

يقف الجيش اللبنانيّ في صميم المعضلة الأمنيّة. فالمطلوب منه تأمين الجنوب، وحراسة الحدود السوريّة، وتولّي دور الردع الذي يضطلع به حزب الله؛ أي يُتوقَّع منه أن يقدّم الدفاع الوطنيّ وهو يحافظ على الحياد، في بلدٍ منقسم بشدّة حول مهمّته.

إلّا أنّ واقع موارده يجعل هذه المهمّة غير واقعيّة. فالميزانيّة الدفاعيّة لعام ٢٠٢٥ تبلغ ٨٠٠ مليون دولار، يذهب ٦٧٪ منها لتسديد الرواتب. وبعد خصم النفقات التشغيليّة، لا يبقى سوى ٢٤ مليون دولار، أي ٣٪ فقط، للتدريب والتحديث والتجهيز. توصي إرشادات الناتو بتخصيص 20% للتحديث،1 بينما تنفق إسرائيل أكثر من 5 مليارات دولار سنويًّا على البحث والتطوير العسكري فقط.2

تبدو الفجوة هائلة. فلبنان يُنفق نحو ١٠,٦٠٠ دولار سنويًّا على كلّ جنديّ، بينما تنفق إسرائيل ٢٧٣,٥٦٠ دولارًا. وعلى مستوى الفرد، انهار الإنفاق الدفاعيّ من ٤٥٧ دولارًا عام ٢٠١٨ إلى ٣٠ دولارًا عام ٢٠٢١ (أي انخفاض بنسبة ٩٣٪)، قبل أن يرتفع مجدّدًا إلى ١١٠ دولارات عام ٢٠٢٤، أي أقلّ بنسبة ٧٦٪ من مستويات ما قبل الأزمة.3

ولا تتعلّق المسألة بالأرقام فقط، بل بالاعتماد الإستراتيجيّ. فالجيش اللبنانيّ يعتمد بشكلٍ شبه كامل على المانحين الأجانب لتأمين الوقود والمعدّات واللوجستيّات، ممّا يحدّ من استقلاليّته العمليّة، ويقوّض صدقيّته الإستراتيجيّة، ويجعل المؤسّسة عرضةً للضغط السياسيّ. في المحصّلة، يُطلَب من لبنان أن يتصرّف بوصفه فاعلًا أمنيًّا سياديًّا مستخدمًا أدوات لا يملكها وموارد لا يتحكّم فيها.

يثير هذا التناقض بين التفويض والوسائل سؤالًا أعمق: إذا لم يكن لبنان قادرًا على تمويل جيشه أو تجهيزه للقيام بدوره، فما الخيارات الإستراتيجيّة المتاحة أمامه؟

وهم الحياد

في ظلّ استحالة التحالفات أو الاصطفاف في محاور سياسيّة، يقترح بعضهم الحياد بوصفه خيارًا إستراتيجيًّا للبنان. من الناحية النظريّة، يتوافق الحياد مع الهويّة السياسيّة التعدُّديّة للبلاد، ويتيح مخرجًا لتفادي الانخراط في الحروب الإقليميّة.

لكنّ الواقع يظهر أنّ الحياد يستحيل بلا معنًى في ظلّ عدم توافر الموارد والشرعيّة الضروريّة لتطبيقه. والدليل على ذلك أنّ الدول التي نجحت في ترسيخ الحياد في إستراتيجيّتها الوطنية دعمته باستثمارات كبيرة: فسويسرا تنفق نحو 683 دولارًا للفرد على الدفاع، والنمسا 473 دولارًا، وحتّى إيرلندا، التي تُعَدّ متواضعة عسكريًّا، تنفق 243 دولارًا. في المقابل، بلغ إنفاق لبنان عام 2024 نحو 110 دولارات فقط.4

كما أنّ الحياد لا يتعلّق بالمال فقط. فهذه الدول تولي جيوشها ثقةً عامّة مبنيَّة على تصوّرات الحياد والملكيّة الوطنية. أمّا في لبنان، فلا وجود لوسائل ماليّة كافية، ولا لشرعيّة وطنية متماسكة، تجعل الحيادَ سياسةً موثوقة من دون إصلاح سياسيّ ومؤسَّسيّ عميق.

تسلّط هذه الفجوة الضوء على حقيقة أعمق: ينبغي للبنان، قبل أن يتمكّن من اختيار تموضعه الدفاعيّ، حياديًّا أو عدا ذلك، أن يعالج أوّلًا العجز الداخليّ الذي يحول دون استمراريّة أيّ إستراتيجيّة، مهما كان توجّهها. وبالتالي، لا بدّ من أن ترتسم البداية من الدولة نفسها، لا من الجيش.

إعادة البناء من الأسفل

ينبغي لأيّ إستراتيجيّة جادّة هادفة لتحقيق السيادة أن تنطلق من أشدَّ مواطن الضعف الّتي يعاني منها لبنان: شرعيّته وقدرته. تقتضي استعادة الشرعيّة تفكيكَ نظام المحاصصة الطائفيّة واستبداله بإطارٍ علمانيّ نسبيّ يتيح تمثيلًا عابرًا للطوائف والطبقات. هذا التحوّل، وحده، هو الكفيل بجعل السلطة السياسيّة تستند إلى رضى واسع بدلًا من استنادها إلى تسويات طائفيّة ضيّقة.

غير أنّ الشرعيّة من دون قدرةٍ تبقى جوفاء. لذا لا بدّ من استعادة السيادة الماليّة عبر نظامٍ ضريبيّ تصاعديّ، وتقليص الارتهان للتمويل الخارجيّ. كذلك، يتطلّب الاستقلال الاقتصاديّ إعادة توجيه الاستثمارات نحو القطاعات الإنتاجيّة والمناطق المهمّشة تاريخيًّا، وتجاوز النموذج الريعيّ المعتمد بعد الحرب، والذي عمّق التبعيّة وعدم المساواة. أخيرًا، ينبغي أن تستعيد الدولة دورها بوصفها مقدّمًا أساسيًّا للخدمات العامّة، فتجدّد بذلك العقد الاجتماعيّ الذي تُبنى عليه السيادة الحقّة.

لن تُقوّي هذه الخطوات الدولة فحسب، بل ستُضعف أيضًا شرعيّة الكيانات المسلَّحة غير الحكوميّة. ولهذا، ينبغي مقاربة مسألة سلاح حزب الله بطريقةٍ مغايرة عن تلك المتّبعة حاليًّا.

نزع السلاح: نتيجةٌ... وليس شرطًا مسبقًا

لا تقوم القوّة العسكرية لحزب الله على تحالفه مع إيران فقط، إنّما على الفراغ الذي خلّفه فشل الدولة. من هنا، تُعَدّ المطالبة بنزع سلاحه، قبل إعادة بناء الدولة، معاكسًا للتسلسل المنطقيّ.

فإذا استطاعت الدولة حماية الحدود، وتقديم الخدمات، وصون الحقوق، فسوف يضعف المبرّر الاجتماعيّ والسياسيّ لوجود سلاح حزب الله وشرعيّته، وذلك بشكلٍ تدريجيّ. عندها، سيكون نزع السلاح نتيجةً طبيعيّةً لاستعادة الدولة مصداقيّتها.

من هذا المنظور، لا يمثّل توحيد القوّة العسكريّة نقطة انطلاق في طريق السيادة، بل المحطّة النهائيّة لعمليّة أوسع من إعادة البناء الوطنيّ.

من ادّعاء السيادة إلى بنائها

تقدّم التجربة التي تَلَت عام 2006 تحذيرًا واضحًا: عندما تتخلّى الدولة عن إعادة الإعمار، فإنّها تتنازل عن الشرعيّة لصالح قوى أخرى. بناءً عليه، إذا أعادت الدولة الكَرَّة عام 2025، فسوف تكون النتيجة أزمةً سياديّة أعمق.

لا تُعلَن السيادة الحقَّة عبر تصويت في مجلس الوزراء أو ببيانات المانحين، بل تُبنى سياسيًّا، وماليًّا، ومؤسّسيًّا. لا شكّ في أنّ الجيش اللبنانيّ قادرٌ على حراسة الحدود وحمايتها، إلّا أنّ الدولة المعادَ تكوينُها وحدَها هي القادرة على حماية شعبها.

حين ينظر المواطنون إلى دولتَهم ويرون فيها الضامن لحقوقهم، لا مجرّد قوّة قمعٍ لهم، يكون لبنان قد انتقل من مجرّد الادّعاء بالسيادة إلى تشييدها بالفعل.

 

إعداد مبادرة سياسات الغد بالتعاون مع مؤسسة فريدريش إيبرت (FES). المقال يعبّر عن وجهة نظر كتابه وليس بالضرورة مؤسسة فريدريش ايبرت. هذا المقال مبني على ورقة بحثية ستصدر قريبًا.

 



1. منظّمة حلف شمال الأطلسي. 2014. إعلان قمّة ويلز.

2. معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. 2025. قاعدة بيانات الإنفاق العسكري.

3. المرجع نفسه.

4. معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. 2025. قاعدة بيانات الإنفاق العسكري.

From the same author

view all

More periodicals

view all
Search
Back to top