The Policy Initiative

  • eng
    • share
  • subscribe to our mailing list
    By subscribing to our mailing list you will be kept in the know of all our projects, activities and resources
    Thank you for subscribing to our mailing list.
10.15.25

أرضٌ متنازَعٌ عليها: لماذا تتسارع عمليّات الاستيلاء على الأراضي في العالم العربيّ

غنوى حريق,
رامي زريق

في ورزازات بالمغرب، استيقظت مجتمعات الرعاة الزراعيّين الأمازيغيّة لتجد مئات الهكتارات من مراعيها الموروثة مسيّجة وقد حُوِّلت إلى مشروع ضخم للطاقة الشمسيّة تدعمه الدولة: مجمّع نور. وعلى الرغم من الاحتفاء بهذا المشروع بوصفه إنجازًا بارزًا في مجال الطاقة الخضراء، فقد فُرِض هذا التغيير في التصنيف من دون أيّ استشارة أو تعويض، ما أدّى إلى محو الحقوق العرفيّة بالأرض وإعاقة التنقّل التقليديّ عبر الأراضي. فقدت المجتمعات المحلِّيّة إمكانيّة الوصول إلى مسارات الرعي الخاصّة بها، ورأت مواردها المائية تُحوَّل إلى خدمة المشروع. بين عشيّة وضحاها، سُلبت منها الأراضي التي كانت تؤمّن لها غذاءها ومداخيلها. والحقيقة أنّ قصّتها ليست فريدةً من نوعها، إذ هي تعكس نمطًا أوسع يسود العالم العربيّ، حيث تتلاقى متطلّبات النموّ الاقتصاديّ والضرورة البيئيّة الملحّة والطموحات السياسيّة المتنافسة لإعادة تشكيل ملكيّة الأراضي والوصول إليها.

يتناول هذا المقال القوى المعقّدة التي تدفع إلى الاستيلاء على الأراضي في المنطقة العربيّة، مبيّنًا أنّ الأرض قد غَدَت سلعة متنازعًا عليها ومسيّسة إلى حدّ بعيد. وما يميّز الموجة الراهنة من عمليّات الاستحواذ هو تشابك الطموحات التنمويّة الاقتصاديّة، والهشاشة الاجتماعيّة، والوهن المؤسّسيّ، والضغوط البيئيّة. ومن خلال تتبّع كيفيّة تقاطع هذه الديناميّات، يوضّح المقال أسباب تسارع وتيرة الاستيلاء على الأراضي وأوجه إلحاح الدوافع الكامنة وراءه. وفي صميم هذه الظاهرة، تكمن مجموعة قويّة من الدوافع الاقتصاديّة التي تعيد تشكيل هذه الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة الأوسع نطاقًا وتعزّزها.

في بلدان مجلس التعاون الخليجيّ، مثل المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة وقطر، تسابق الحكومات الزمن لتنويع اقتصاداتها، والحدّ من الاعتماد على النفط والغاز، وتعزيز مواقعها في الأسواق العالميّة. وفي دول عربيّة أخرى، مثل المغرب ومصر والأردنّ، تنبع الضغوط على الأراضي بشكل أكبر من مشاريع التطوير السياحيّ، والاستثمارات الزراعيّة واسعة النطاق، والتوسّع في البنى التحتيّة. وتولّد هذه الاتّجاهات مجتمعةً طلبًا نهمًا على الأراضي لاحتضان المشاريع الضخمة، والمدن الذكيّة الجديدة، والمناطق الصناعيّة، والمنتجعات السياحيّة، والمزارع واسعة النطاق، ومرافق الطاقة المتجدّدة. وعلى الرغم من تقديم هذه المشاريع بوصفها رموزًا للحداثة والتقدّم، فإنّها تتطلّب مساحات شاسعة من الأراضي، غالبًا في مناطق لطالما اعتمدت فيها المجتمعات الريفيّة على الزراعة المعيشيّة أو الرعي.

تُفاقِم الديناميّات العالميّة هذا الضغط. ففي أوقات أزمات الغذاء أو الطاقة، كما في ارتفاع أسعار الموادّ الغذائيّة عام 2007–2008، أو في الاضطرابات الجيوسياسيّة الأخيرة، تكتسب الأرض أهمِّيّة إستراتيجيّة جديدة. فالدول الغنيّة، المحدودة الأراضي، تسعى إلى تأمين سلاسل الإمداد الزراعيّ في الخارج، مستهدفةً في الغالب أراضي تُعَدّ غير مُستَغَلّة بما يكفي. وفي الوقت نفسه، يزداد نظر المستثمرين المضاربين إلى الأرض على أنّها أصل آمن ومتنامي القيمة، وأنّها بمثابة وسيلة للتحوّط في وجه التقلّبات. والنتيجة هي تقاطُع مصالح عامّة وخاصّة، وطنيّة وعالميّة، تُحكِم ضغطها المتصاعد على الأراضي المتاحة.

ومع ذلك، لا تحدث عمليّات الاستيلاء على الأراضي في فراغ. فهي ممكنة بفضل مواطن الضعف الكامنة في أنظمة حيازة الأراضي في المنطقة. ففي كثير من الدول العربيّة، ولا سيّما في المناطق الريفيّة أو المهمَّشة، تُنظَّم حقوق الأرض وفق الأعراف العُرفيّة أكثر ممّا تُوثَّق رسميًّا. وبما أنّ هذه الحقوق نادرًا ما يُعترَف بها في القوانين الوطنيّة، تجد المجتمعات نفسها في أوضاع قانونيّة هشّة. فعندما تستولي الحكومات أو الشركات على الأراضي لأغراض التنمية، غالبًا ما يفتقر السكّان إلى الأساس القانونيّ الذي يمكّنهم من الطعن في عمليّة الاستيلاء، حتّى وإن كانت صِلاتهم بالأرض تمتدّ لأجيال. وتعود جذور هذه المشكلة إلى السياسات الاستعماريّة التي صنّفت الأراضي غير المسجَّلة ملكًا للدولة، وهو إطار قانونيّ حافظت عليه إلى حدّ كبير حكومات ما بعد الاستقلال. واليوم، يتمثّل الإرث في نظام مجزّأ وطموح تُمكِّن بموجبه الدولة، بشكل قانونيّ، من المطالبة بأراضٍ يستخدمها السكّان المحلّيّون فعليًّا. هذا الغموض يتيح للفاعلين الأقوياء استغلال الثغرات القانونيّة، ما يؤدّي إلى تشريد المجتمعات من دون استشارة جادّة أو تعويض فعليّ.

وتُعمِّق الديناميّات السياسيّة هذا الخلل أكثر؛ إذ غالبًا ما تُؤطَّر أولويّات التنمية بوصفها ضرورات وطنيّة مُلحّة، وتمنح الحكومات، الساعية إلى جذب الاستثمارات الأجنبيّة وتسريع النموّ، الأولويّة للمشاريع الكبرى على حساب الحقوق المحلّيّة. وفي كثير من الحالات، يتيسّر الاستيلاء على الأراضي بفضل الغموض المؤسّسي وضعف إنفاذ سيادة القانون. كما تسمح مظاهر الفساد في أنظمة إدارة الأراضي بإبرام الصفقات خلف الأبواب المغلقة، من دون رقابة عامّة تُذكَر. وفي البلدان المتأثّرة بالنزاعات، يكون الوضع أكثر حدّة. فحيث تنهار هياكل الحوكمة أو تتعرّض لتنازع شديد، قد تستولي مجموعات نافذة – تشمل الفصائل المسلّحة أو النخب المحلّيّة – على الأراضي تحت غطاء الاضطراب السياسيّ. إنّ إرث التحكّم المركزيّ في الأراضي، الموروث من القوانين الاستعماريّة، يتيح للدول أن تبرّر إعادة توزيع جماعيّة للأراضي من دون مواجهة قانونيّة جديّة. وفي الوقت نفسه، تدفع المؤسّسات الماليّة الدوليّة والوكالات المانحة باتّجاه التنمية القائمة على السوق وتحرير الأراضي، ما يزيد الضغط على الحكومات لفتح أسواق الأراضي من دون تقييم كامل للتَبِعات الاجتماعيّة. والنتيجة هي اقتصاد سياسيّ للأراضي حيث تتحكّم السلطة، لا العدالة، في تحديد سُبُل الوصول إليها والسيطرة عليها.

من المفارقات أنّ الضغوط البيئيّة باتت تؤدّي دورًا محوريًّا في دفع عمليّات الاستيلاء على الأراضي، وغالبًا ما تُبرَّر باسم الاستدامة. فمع مواجهة المنطقة العربيّة تهديدات مناخيّة متزايدة، تروّج الحكومات، وكذلك المستثمرون، على نحو متنامٍ، لمشاريع بيئيّة واسعة النطاق تهدف إلى التكيّف والتخفيف من حدّة هذه الأخطار. وتشمل هذه المشاريع حملات إعادة التحريج، وبرامج تجميع المياه، وعلى وجه الخصوص إنشاء بنى تحتيّة للطاقة المتجدّدة مثل مزارع الطاقة الشمسيّة ومحطّات الرياح. وعلى الرغم من أنّ هذه المشاريع ضروريّة لتعزيز القدرة على الصمود على المدى الطويل، فإنّها تتطلّب مساحات شاسعة من الأراضي، وغالبًا ما تكون في مناطق نائية أو بيئيّة هشّة. وفي حالات كثيرة، تَستخدم هذه الأراضي مجتمعات تعتمد في سُبُل عيشها على الرعي، أو جمع الموارد الطبيعيّة، أو الزراعة صغيرة النطاق. صحيحٌ أنّ هذه الأراضي قد تبدو خالية أو قليلة الاستخدام، إلّا أنّها مندمجة بعمق في الأنظمة الاجتماعيّة والبيئيّة المحلّيّة. وعندما تُنتَزع لصالح مبادرات بيئيّة من دون تخطيط كافٍ، فإنّها تولّد طبقات جديدة من نزع المُلكيّة والصراع. وهنا يتجلّى التناقض بوضوح: أن تُفضي المساعي الرامية إلى مواجهة التدهور البيئيّ، إذا أُديرت بصورة سيّئة، إلى أضرار اجتماعيّة وبيئيّة جسيمة.

تشكّل هذه العوامل الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والبيئيّة، مجتمعةً، نسيجًا متشابكًا يفسّر ارتفاع معدّلات الاستيلاء على الأراضي في العالم العربيّ. فلا يعمل أيّ عامل بمعزل عن الآخر، بل تتعزّز جميعها في دورة ذاتيّة الاستمرار. فمشروع تنموي يُبرَّر بضرورات اقتصاديّة قد يُقام على أرض جرى الاستحواذ عليها من خلال أطر قانونيّة هشّة، وحظي بموافقة مؤسّسات عرضة للفساد، وقُدِّم بوصفه استجابة لتغيّر المناخ. كلّ خيط يرتبط بالآخر، ليُنتج هيكليّة شديدة المقاومة للإصلاح وصعبة الاختراق أمام الرقابة العامّة والمساءلة.

ويُعَدّ فهم هذا النسيج خطوة أولى حيويّة على طريق تفكيكه. يتطلّب التصدّي لظاهرة الاستيلاء على الأراضي في المنطقة العربيّة ما يتجاوز الإصلاحات الجزئيّة أو الحلول التقنيّة؛ إنّه يحتاج إلى مقاربة تحويليّة في حوكمة الأراضي، تُركّز على حقوق المجتمعات المحلِّيّة، وتُرسّخ الشفافيّة، وتضمن ألّا تأتي مساعي الاستدامة على حساب العدالة. يتعيّن على الحكومات الاعتراف بالحقوق العُرفيّة في الأراضي وإضفاء الطابع الرسميّ عليها، لا سيّما لصالح المجتمعات الريفيّة والأصيلة. كما يجب إعادة هيكلة الأنظمة القانونيّة لمنع الاستيلاء الحكوميّ غير المنضبط، وفرض مبدأ الموافقة الحرّة والمسبقة والمستنيرة في عمليّات التملّك كلّها. وينبغي تمكين المجتمع المدنيّ من مراقبة صفقات الأراضي، وإنشاء آليّات شكاوى يسهل الوصول إليها وتُنفَّذ لحماية المتضرّرين. وقبل كلّ شيء، على المنطقة أن تتحوّل من نموذج تنمويّ يركّز الأراضي والسلطة في أيدي قلّة، إلى نموذج يُوزّع الفرص بشكل أكثر عدلًا، ويعامل الأرض بوصفها أساسًا للصحّة البيئيّة والكرامة الإنسانيّة معًا. فالأرض ليست مجرّد مورد، بل هي مجال للهويّة والانتماء والبقاء. وإذا أراد العالم العربيّ أن يتجاوز التحدّيات المُلحّة المتمثّلة في تغيّر المناخ، وانعدام الأمن الغذائيّ، وعدم الاستقرار السياسيّ، فلا بدّ له من إعادة تصوُّر كيفيّة إدارة الأراضي وتقاسمها وتقييمها، وإلّا، فإنّ كلفة الاستيلاء غير المنضبط على الأراضي لن يدفعها النازحون عنها اليوم فقط، بل ستتحمّلها أجيال لم تولد بعد.

هذه المقالة جزءٌ من مشروع بحثيّ تعاوني بعنوان «المناخ والأرض والحقّ: السعي للعدالة الاجتماعية والبيئية في المنطقة العربية» تحت إشراف منى خشن وسامي عطاالله.

 


From the same author

view all

More periodicals

view all
Search
Back to top