- eng
-
- share
-
subscribe to our mailing listBy subscribing to our mailing list you will be kept in the know of all our projects, activities and resourcesThank you for subscribing to our mailing list.
موازنة 2026 بين القيود والفرص: كيف يمكن لتغييرات بسيطة أن تحدث فرقًا حقيقيًّا

تبدو مسوَّدة موازنة لبنان لعام 2026 ذات مظهرٍ من الانتظام، غير أنّ هذا الانتظام يفتقر إلى أيّ مضمونٍ إستراتيجيّ. فهي تُظهِر مستوى من الاتّساق الإجرائيّ - جداول مُنسَّقة، ومجاميع متوازنة حسابيًّا، وأبواب قانونيّة مُكتملة - لكنّ الهيكليّة الفعليّة التي ترتكز إليها هذه الأرقام لا تزال هشّة وضعيفة. وتبدو الموازنة متوازنة على الورق، إلّا أنّ هذا التوازن يقوم على افتراضاتٍ غير مُعلَنَة ولا يمكن الدفاع عنها. ويزداد هذا الضعف مع اختلاف النُّسَخ الصادرة خلال أيّام قليلة متقاربة اختلافًا يكفي لتهديد مصداقيّتها. وهكذا يتحوّل النصّ إلى محاكاةٍ للتخطيط أكثر منه خطّة فعليّة: تناظرٌ رقميّ يُخفي غيابًا واضحًا للمنطق الاقتصاديّ.
وقد أصبح هذا النمط مألوفًا ومكرَّسًا. فبدلًا من أن تُستخدَم الموازنة لتحديد الأولويّات، وتوجيه الموارد، وإدارة المخاطر، لا تزال الدولة تتعامل معها بوصفها إجراءً تقنيًّا لا أداةً للحَوْكَمة. وتأتي النتيجة شكلًا بلا عمق: تمرينًا سنويًّا على إنتاج وثيقة، لا على صياغة رؤية ماليّة.
ومع الإقرار بأنّ المحدّدات التي يُواجِهها لبنان، سواءٌ أكانت ماليّة أم سياسيّة أم إداريّة أم مؤسّسيّة، محدّداتٌ حقيقيّة، إلّا أنّها لا تُلغي قدرة الدولة على الاختيار، بل تجعل كلفة كلّ قرارٍ وكلّ مفاضلة أكثر وضوحًا وحدّة. وهنا يتبيّن أنّ المشكلة لا تكمن في شُحّ الموارد فحسب، بل في ميزان القوى الذي يُحدّد كيفيّة توزيع هذه الموارد الشحيحة. فغالبًا ما يُقدَّم الأمر بوصفه «ندرة تقنيّة»، بينما هو في جوهره نتيجة خيارات سياسيّة. ومن ثمّ، فإنّ العجز الحقيقيّ لا يكمن في حجم الأموال المُتاحة، بقدر ما يكمن في منهجيّة تحديد الأولويّات، وترتيب القرارات، وتصميم السياسات. وضمن الهامش الماليّ المُتاح نفسه، كان يمكن لموازنة 2026 أن تُصاغ بصيغةٍ أكثر عدالة في توزيع العبء الضريبيّ، وأكثر صدقيّة في عرض افتراضاتها، وأكثر قدرة على تثبيت التعامل مع التضخّم والمتأخّرات، وأكثر انسجامًا مع الالتزامات التي أعلنتها الحكومة نفسها، وبخاصّةٍ في مجالات إعادة الإعمار والحماية الاجتماعيّة وتجديد المؤسّسات.
واليوم، ومع خضوع موازنة 2026 للمراجعة في اللجان النيابيّة تمهيدًا لإقرارها، تُتاح أمام أعضاء مجلس النوّاب والأحزاب السياسيّة فرصةٌ لتصحيح بعض الثغرات؛ لا عبر إصلاحات كبرى أو زيادات في الإنفاق، بل من خلال تعديلات محدّدة وواقعيّة تُعيد إلى الموازنة الغاية التي تفتقر إليها. وتتمحور هذه التعديلات حول كيفيّة توزيع العبء الضريبيّ، وطريقة التعامل مع ملفَّي إعادة الإعمار والحماية الاجتماعيّة، ومدى امتلاك المؤسّسات المكلّفة بالرقابة وتقديم الخدمات للحدّ الأدنى من القدرة على أداء وظائفها. ولن يظهر أثر هذه الخطوات في تغييرات جذريّة، بل في تحوّلات صغيرة قابلة للرصد والتتبُّع: في هويّة من يدفع، ومن يستفيد، وكيف تُعرَض المخاطر، وما إذا كانت الخدمات الأساسيّة تصبح أكثر موثوقيّة ولو بهامش محدود. وعلى امتداد هذه الهوامش المتواضعة، ولكن القابلة للقياس، يتناول التحليل الآتي موازنة عام 2026، ليرصد ما إذا كانت التصحيحات الصغيرة قادرة، حتّى في ظلّ قيود صارمة، على إحداث فرقٍ حقيقيّ.
تشخيص الهيكل: ما تكشفه الأرقام عن السلطة والغرض
إنّ التمعُّن في هيكليّة الإيرادات والإنفاق في موازنة 2026 يُظهِر أنّ الوثيقة ليست مجرّد حصيلة شُحّ ماليّ أو ضعف إداريّ، بل تعكس تَراتُبيّة في ميزان القوى ومنظومة أولويّات تُرسَم على أساسها كُلفة الدولة: مَن يتحمّل عبء تمويلها، ومَن يستفيد من إنفاقها. فعندما تُقرأ الأرقام في سياق واحد، من جهة آليّات تعبئة الموارد ومن جهة طرق توزيع النفقات، تتكشّف بنية اقتصاديّة – سياسيّة مُحكَمة تتيح الحماية للأطراف النافذة وللقطاعات الريعيّة ذات الريوع العالية، بينما تعتمد بصورة شبه كاملة على الأُسَر لتمويل النظام.
ويمثّل بناء الإيرادات الضريبيّة المدخل الأوضح إلى هذا الاختلال. إذ يستمدّ مشروع موازنة 2026 ما لا يتجاوز 17.5% من إجمالي موارده من الضرائب المباشرة، مقابل 64.6% من الضرائب غير المباشرة، و17.9% من الإيرادات غير الضريبيّة. وعندما تُصنَّف هذه الإيرادات وفق أثرها التوزيعيّ، يتّضح الخلل على نحو أشدّ حدّة: فالأدوات الضريبيّة التقدُّميّة لا تولّد سوى 13% من إجمالي الإيرادات الضريبيّة، فيما يأتي 87% عبر أدوات تراجعيّة. عمليًّا، لا تزال الدولة تعتمد على ضرائب الاستهلاك بوصفها القاعدة الأسهل والأقلّ مقاومة سياسيّة للتحصيل، ما يعني أنّ العبءَ يقع بصورة غير متكافئة على الأُسَر منخفضة الدخل، بدلًا من أن يقع على الثروة، أو دخل رأس المال، أو الملكيّة، أو الريوع الاقتصاديّة. وهذه البنية لا تعبّر عن نتيجةٍ تقنيّة، بل تُجسِّد منطق الاقتصاد السياسيّ السائد الذي يفضّل تجنُّب الإصلاحات البنيويّة التي يتطلّبها فرض ضرائب فعّالة على الثروة ورأس المال والريع.
وتُظهِر بنية وقع الضريبة مدى عمق هذا الخلل. إذ تُسهِم الأُسَر منخفضة الدخل بنحو 25% من إجمالي الإيرادات الضريبيّة، فيما تتحمّل الأُسَر متوسّطة الدخل نحو 40%؛ أي إنّ نحو 90% من السكّان يموّلون ما يقارب ثلثَي الدولة. في المقابل، لا تُسهِم الفئات عالية الدخل إلّا بنسبة 28%، وهي حصّة متواضعة قياسًا بدرجة التركُّز الفائق للثروة في البلاد. ولا يعود ذلك إلى خطأ في القياس، بل يعكس بوضوح ميل مراكز القرار إلى فرض الضرائب على الاستهلاك لكونها الأسهل تحصيلًا، بينما يبقى رأس المال والملكيّات، المتركّزة بشكل غير متناسب بين الأثرياء والفئات المحميّة سياسيًّا، مُعفاة من ضريبة كافية أو غير خاضعة لها.
وفي العقود السابقة، كان يمكن تبرير هذا الاختلال، ولو جزئيًّا، بمنطق النموذج الاقتصاديّ السابق للأزمة، الذي كان يقوم على استقطاب تدفّقات رأس المال الخارجيّ، ولا سيّما الودائع المصرفيّة. وضمن هذا النموذج، كان فرض ضرائب فعليّة على الثروة يُعَدّ خطوة تتعارض مع اقتصادٍ يقوم على جذب الأموال لا توليدها. وكانت الحجّة السائدة أنّ فرض ضرائب من هذا النوع سيؤدّي إلى هروب رأس المال من البلاد. غير أنّ هذا المنطق نفسه أسهم في ترسيخ بنية ضريبيّة عمّقت اللامساواة الضريبيّة، وحوّلت الجزء الأكبر من العبء إلى الأجور والرواتب، وسمحت لحَمَلَة الثروات بأن يراكموا مكاسب إضافيّة على حساب المجتمع الواسع.
أمّا اليوم، فلم يَعُد هذا التبرير قائمًا؛ إذ انهار النظام الماليّ الذي كان يُقدَّم على أنّه يحتاج بشكل مستمرّ إلى حماية رأس المال، وحلّ مكانه اقتصاد نقديّ غير رسميّ آخذ في التوسُّع. وفي سياق كهذا، يصبح من الصعب فهم كيف يمكن الدفاع عن استمرار الهيكليّة الضريبيّة ذاتها، أي كيف يمكن للدولة أن تُبقي على هيكل صُمِّم لخدمة نموذجٍ لم يَعُد موجودًا. إنّ استدامة هذه البنية الضريبيّة تعكس اليوم جمودًا سياسيًّا لا رؤية ماليّة؛ إذ يواصل المستفيدون من النموذج القديم مقاومة الإصلاحات التي من شأنها إعادة توزيع العبء الضريبيّ بصورة أكثر عدالة.
ويُكرِّس جانب الإنفاق العامّ الهَرَميّة ذاتها. فالجزء الأكبر من الإنفاق العامّ يتدفّق نحو مجموعات متموضعة داخل الدولة: موظّفو القطاع العامّ، العناصر الأمنيّة، والمجالس والمؤسّسات ذات الارتباطات السياسيّة. في المقابل، تنال الأسر منخفضة الدخل أقلّ من 10% من إجمالي الإنفاق العام، ولا تحصل إلّا على قدرٍ محدود من الخدمات الأساسيّة، مثل الصحّة والتعليم والحماية الاجتماعيّة أو التحويلات الموجّهة. كما يغيب المتقاعدون خارج القطاعَين العسكريّ والعامّ عن خارطة الاعتمادات، بما يعكس اعتماد النظام تعريفًا ضيّقًا للغاية لقاعدته الاجتماعيّة. وتبقى الحماية الاجتماعيّة مُجزّأة وضعيفة الجدوى، فيما تعمل موازنات التعليم والصحّة بوصفها شكلًا من أشكال الدعم غير المباشر لموظّفي القطاع العامّ، أكثر ممّا تؤدّي وظيفة توسيع الوصول إلى الفئات منخفضة الدخل. أمّا الإنفاق الرأسماليّ، الذي يُفترض أن يدعم التعافي الاقتصاديّ، فهو محدود وضعيف الاستهداف، إلى درجة يعجز معها عن إحداث أثر اقتصاديّ ملموس.
ويُبرِز الإنفاق على إعادة الإعمار هذا الاختلال على نحوٍ أكثر حدّة. فعلى الرغم من الدمار الواسع الذي خلّفته الحرب، لا يُخصّص مشروع الموازنة سوى نحو 225 ألف دولار للمجلس الأعلى للإغاثة، ونحو 25 مليون دولار لمجلس الجنوب، مع تخصيص جزء صغير فقط لأعمال إعادة الإعمار. وهذه المبالغ، مقارنةً بحجم الأضرار الموثّقة، ضئيلة إلى حدٍّ يفرغ إعادة الإعمار من مضمونها، ولا تكفي حتّى لبدء ترميم المجتمعات المتضرّرة. والأثر هنا ليس اقتصاديًّا فقط، بل سياسيّ أيضًا: إذ تشير هذه الأرقام بوضوح إلى أنّ الدولة لا تزال غائبة، حتّى بعد الحرب.
وبالقدر نفسه، تُهمَّش مؤسّسات الرقابة والمساءلة التي يُفترَض أن تُرسِّخ المصداقيّة وتدعم الشفافية. فديوان المحاسبة والتفتيش المركزيّ وإدارة الإحصاء المركزيّ لا يحصلون إلّا على مخصّصات محدودة لا تكفي لاستعادة قدراتهم التشغيليّة، ولا لتمكينهم من إنتاج البيانات التي تحتاج إليها الحكومة لصياغة سياسات أفضل، أو يحتاج إليها مجلس النوّاب لممارسة دوره في المراقبة والتقييم. وفي غياب هذه المؤسّسات، ينزلق وعد الإصلاح إلى الضبابيّة وانعدام القدرة على القياس.
وعند النظر إلى هيكليّة الإيرادات والإنفاق معًا في مسوَّدة موازنة 2026، يظهر نمط ثابت: فالموازنة تحمي أصحاب النفوذ على حساب الأسر، وتركّز على الرواتب بدلًا من الثروة المالية والأنشطة الريعيّة، وعلى الصيانة بدلًا من التعافي. إنّها تُدير منطق البقاء لا منطق إعادة البناء، وتحافظ على البنية الماليّة السابقة للأزمة بدلًا من التكيّف مع الانهيار الاقتصاديّ والاجتماعيّ الذي أعقبها. وما تكشفه الأرقام ليس اختلالًا تقنيًّا فحسب، بل اختلال سياسيّ بنيويّ: دولة تُعيد توزيع مواردها صعودًا عبر نظامها الضريبيّ، ونحو الداخل السياسيّ عبر إنفاقها، في لحظة تواجه فيها أحد أكثر المشاهد الاقتصاديّة تفاوتًا وهشاشةً في تاريخها الحديث.
لا تزال أمام البرلمان مساحات متاحة للتحسين: حلول واقعيّة منخفضة التكلفة وعالية التأثير
تُعَدّ الفجوة المُتّسِعة بين الأولويّات المُعلَنة في البيان الوزاريّ للحكومة وبين المُخصَّصات الفعليّة في مشروع موازنة 2026 إحدى أبرز نقاط ضعفه البنيويّة. فقد قدّم البيان الوزاريّ إعادة الإعمار بوصفها واجبًا وطنيًّا، وطرح الإصلاح الإداريّ ركيزةً أساسيّة للتعافي، وربط تعزيز القدرات الدفاعيّة بشرط السيادة. غير أنّ هذه الأولويّات، عند الوقوف أمام الأرقام، تتقلّص إلى بنود رمزيّة وموازنات تشغيل وصيانة لا ترتقي إلى مستوى التعهّدات المُعلَنَة.
وإذا كان البرلمان غير قادرٍ على إعادة هندسة الموازنة من الصفر، فإنّه يستطيع تضييق جزءٍ من هذه الفجوة عبر تصحيح الاختلالات الأكثر خطورة، ولا سيّما تلك التي تتصادم فيها التزامات الدولة المُعلَنَة مع أرقامها الفعليّة. وما هو مطلوب ليس قفزات ضخمة، بل خيارات أفضل: تعديلات محدودة، قابلة للتنفيذ، وموجَّهة بدقّة، تُعيد توجيه الموازنة نحو الحاجات الوطنيّة المُلحّة وتُقارب المسار السياسيّ المُعلَن.
ويبرز مجال المصداقيّة بوصفه أوّل مساحة يمكن للبرلمان التدخّل فيها. فالموازنة تعاني من القدر نفسه من الضبابيّة الهيكليّة التي طبعت الإدارة الماليّة لسنوات: تغيّرات تقارب 15% بين النسخ المتتالية من دون أيّ تفسير، وغيابٌ كامل للافتراضات الاقتصاديّة الكلِّيَّة (الماكرو–اقتصاديّة)، و«عجز صفريّ» لا يتحقّق إلّا من خلال استبعاد المتأخّرات والالتزامات خارج الموازنة. ويعكس غياب الشفافية هذا نمطًا أوسع في إدارة المال العامّ، حيث تتبدّد الوعود الواردة في البيانات الوزاريّة عند الدخول في تفاصيل الاعتمادات الفعليّة. ويمكن للبرلمان معالجة هذا الخلل من دون أيّ كلفة ماليّة عبر فرض نشر جدول يُبيّن الفروقات بين النسخ المختلفة، وإعداد ملحق يشرح الافتراضات الماكرو–الماليّة، وبيان للمخاطر الماليّة الحكوميّة يشمل المطلوبات الطارئة في الكهرباء والصحّة العامّة والدعاوى القضائيّة، إلى جانب وضع سقوف صارمة على إعادة التخصيص التقديريّة. مثل هذه التدابير تحوّل الموازنة من تمرين حسابيّ إلى خطّة قابلة للدفاع والقياس.
حتى مع هذه الإفصاحات، يبقى أحد أبرز الثغرات هو الادعاء بوجود «عجز صفري». فالمسودة تستبعد القروض والمساهمات من قاعدة إيراداتها، رغم أنها جزء من هيكل التمويل العام. وفي الوقت نفسه، ارتفعت ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان بما يقارب ملياري دولار منذ بداية عام 2025، وهو تغير لا يمكن تفسيره بالمعطيات المتاحة حالياً. ظاهرياً، يمكن نسب جزء من هذا الارتفاع إلى القروض والمساهمات الخارجية المتوقعة — بما يقارب 560 مليون دولار — وإلى الفائض الأولي المقدر في موازنة 2024 والبالغ نحو 480 مليون دولار. لكن ذلك لا يفسر ما يقارب مليار دولار إضافية لا يزال مصدرها غير معروف. التفسير الأكثر ترجيحاً هو أن الإنفاق الفعلي كان أدنى بكثير من الاعتمادات المرصودة في الموازنة، لكن من دون تقارير شفافة يبقى هذا مجرد افتراض. لذلك، ينبغي على البرلمان أن يفرض إجراء قطع حساب كامل يوضح مصادر التمويل والتنفيذ الفعلي للإنفاق. من دون ذلك، يتحول «العجز الصفري» إلى مجرد تركيب إحصائي لا يعكس واقع المالية العامة، وتبقى الموازنة وثيقة تخفي أكثر مما تكشف.
ويُشكّل ملفّ إعادة الإعمار المجال الثاني الذي يمكن من خلاله استعادة شيء من الواقعيّة والمسؤوليّة، إذ تتجاوز رهاناته الإصلاح المادّي إلى بُعد سياديّ وسياسيّ. فقد صوّرت الحكومة إعادة الإعمار كواجب وطنيّ وأولويّة إستراتيجيّة بعد الحرب، وجزءًا أساسيًّا من استعادة سيادة الدولة على أراضيها وإثبات أنّها هي، وليس الفاعلون الخارجيّون، قادرة على حماية مجتمعاتها وإعادة بنائها. غير أنّ المُخصَّصات الواردة في المشروع تروي قصّة مختلفة: لا صندوقًا مخصّصًا، ولا خطّة مُتعدّدة السنوات، ولا آليّة شفّافة للتقارير تُنسّق جهود التعافي أو تعبئة دعم المانحين. وهذا الفراغ لا يؤخّر إعادة الإعمار فحسب، بل يُضعف كذلك قدرة الدولة على تثبيت سيادتها، ويُفاقم هشاشة المناطق المنكوبة، ويقوّض ما تبقّى من ثقة المواطنين بالمؤسّسات الوطنيّة.
ويمكن للبرلمان تصحيح هذا المسار عبر إنشاء صندوق لإعادة الإعمار قائم على قواعد حوكمة واضحة ومُلزمة، يُرَسْمل بنسبة تتراوح بين 1 و2% من إجمالي الإنفاق. ويُفعَّل الصندوق تلقائيًّا عند تحقّق شروط مُحدّدة، ويخضع لرقابة الشراء العام، ويُموَّل جزئيًّا من إعادة تسعير الريوع الساحليّة والبيئيّة. وهذا لا يُمثّل إنفاقًا إضافيًّا، بل إعادة توجيه عقلانيّة للاحتياطيّات التقديريّة القائمة نحو آليّة يمكن للمجتمعات والمانحين الوثوق بها. وبهذه الخطوة، يرسل البرلمان إشارة واضحة بأنّ إعادة الإعمار مسؤوليّة سياديّة تُنفّذ عبر مؤسّسات الدولة، لا عبر قنوات التسييس أو الاستعانة بمصادر خارجيّة، وأنّ الدولة قادرة على إعادة بناء البنية التحتيّة وترميم العقد الاجتماعيّ الذي يُعيد المواطنون من خلاله الثقة بجدوى السياسة العامّة وشرعيّتها.
ويُظهر الإنفاق الدفاعيّ انفصالًا مماثلًا بين الخطاب والممارسة. فعلى الرغم من ربط السيادة بجيشٍ أقوى وحدودٍ أكثر أمنًا، تكاد كلفة الرواتب والأجور تستحوذ على معظم الزيادة في الإنفاق العسكريّ، فيما يبقى الاستثمار في التجهيزات والتدريب والقدرات العملانيّة هامشيًّا. وهذا ليس خللًا تقنيًّا فقط، بل قصور في الرؤية: فبناء البنية التحتيّة للجيش، وتسليحه، وتطوير قدراته التكنولوجيّة ليست خيارات ثانويّة، بل متطلّبات أساسيّة للسيادة الوطنيّة. وفي هذه المرحلة بالذات، يصبح الاستثمار في قدرات الجيش ضرورةً للتفاوض من موقع قوّة في بيئة إقليميّة تتّسم بتحوّلات مستمرّة في ميزان القوى وتوتّرات متكرّرة. الجيش الضعيف التمويل يكون أكثر عرضة للضغط الخارجيّ والتأثير السياسيّ، تحديدًا لأنّه يفتقر إلى الموارد التي تمكّنه من العمل باستقلاليّة. وعليه، لا يُعَدّ الاستثمار الدفاعيّ ترفًا، بل استثمارًا وطنيًّا لا بدّ من أن يبقى وطنيًّا، لا رهينةَ لتمويل خارجيّ يُحوِّل ملفّ الدفاع إلى ساحة إضافيّة للتدخّل. ولا يستطيع البرلمان معالجة إرث عقود من ضعف الاستثمار خلال دورة واحدة، لكن يمكنه ربط أي زيادات مستقبليّة في الموازنة الأمنيّة بمعايير واضحة لبناء القدرات وبآليّات تقارير شفّافة، بما يسمح بالانتقال في الإنفاق الدفاعي من مجرّد البقاء إلى تحقيق قدرة ردع فعّالة.
وتكاد الإصلاحات الإداريّة والقضائيّة، التي رُوّج لها تحت شعار «الإصلاح والإنقاذ»، تختفي من الموازنة. فقد تعهّدت الحكومة بالتوظيف على أساس الجدارة، والتحوّل الرقميّ، ومراقبة الأداء؛ لكنّ الموازنة توسّع التوظيف المؤقّت، وهو الأداة الأكثر رسوخًا في المحسوبيّة السياسيّة، ولا تخصّص أيّ تمويل للرقمنة أو لإعادة الهيكلة. أمّا القضاء، الذي وُعد بالاستقلاليّة والفعاليّة، فلا يتلقّى مخصّصات لأتمتة المحاكم، أو تأهيل السجون، أو معالجة الجرائم الماليّة. ويمكن للبرلمان تصحيح هذا الوضع عبر إعادة تخصيص ميزانيّة متواضعة ومحدّدة للتجديد الإداريّ المؤسّسيّ: إجراء تدقيق للوظائف الشاغرة، دعم رقمنة الخدمات، وتمكين مجلس الخدمة المدنيّة من إجراء تعيينات مبنيّة على الجدارة. وكذلك يتطلّب دعم القضاء خطوات متواضعة موازية، تبدأ باستعادة الحدّ الأدنى من التمويل التشغيليّ، وتخصيص موارد للأتمتة وتقليص التراكمات القضائيّة. وهي تكاليف صغيرة ذات فوائد مؤسّسيّة كبيرة وغير متناسبة.
وتستمرّ هيئاتُ الرقابة، التي يُفترَض أن تُرسِّخ المصداقيّة وتحدّ من سوء استخدام الموارد العامّة، خاضعةً لضعفٍ بنيويّ في التمويل. فديوانُ المحاسبة، والتفتيشُ المركزيّ، وإدارةُ الإحصاء المركزيّ تعمل جميعها بميزانيّاتٍ لا تكفي لتأدية وظائفها الأساسيّة. إنّ إعادة تفعيل إدارة الإحصاء المركزيّ وتمويل جردٍ وطنيّ شامل للأصول والخصوم العامّة خطوةٌ منخفضة الكلفة، لكنّ أثرها تحويليّ؛ إذ تتيح وضعَ الموازنة على أساس الأدلّة والبيانات، لا على الارتجال والتقديرات الظرفيّة. ويمكن للبرلمان بسهولة إعادة إدراج هذه الاعتمادات، على أن يُشترط، مقابل تمويلها، نشرُ مخرجاتها من تقارير وتدقيقات وبيانات بصورةٍ علنيّة. فتعزيز الرقابة ليس إصلاحًا اختياريًّا، بل شرط مسبق لأيّ تنفيذٍ موثوق للموازنة نفسها.
وتعكس هيكليّةُ إدارة الإيرادات تحيّزاتٍ راسخة بالقدر نفسه. فلا تزال العقاراتُ والأملاكُ البحريّة العامّة خاضعةً لضرائب ضعيفة، على الرغم من كونها من أكثر الأصول تركّزًا للثروة. وبعد انهيار النظام المصرفيّ، أصبح تتبّع رأس المال المُتحرّك أكثر صعوبة، غير أنّ هذا الواقع يجعل من الضريبة العقاريّة الركيزة الطبيعيّة للتدرّجيّة الضريبيّة. فالعقارات تُخزّن الثروة، وتُغذّي المضاربة، وتولّد عوائد، ومع ذلك تبقى الضرائب العقاريّة ثابتة وغيرَ تدرُّجيّة، فيما تُدرّ تعدّيات الأملاك البحريّة العامّة إيراداتٍ هامشيّة. وعلى المنوال نفسه، يستمرّ استخراجُ الموارد من المحاجر والأنشطة ذات الأثر البيئيّ العالي، وغالبًا بيد جهاتٍ متّصلة سياسيًّا، من دون فرض ضرائب ذات معنى، على الرغم من تكاليفها الاجتماعيّة والبيئيّة المرتفعة. ويمكن للبرلمان تصحيح هذا الوضع عبر تحديث جداول التقدير العقاريّة الموحَّدة، واعتماد نطاقات ضريبيّة أعلى للعقارات عالية القيمة، ونشر سجلّ الأصول الساحليّة العامّة، وتسعير الامتيازات وفق آليّات علنيّة قائمة على معايير واضحة، وبيع تراخيص المحاجر باستخدام مزايدات شفّافة، وفرض سندات الترميم البيئيّ الإلزاميّ على الأنشطة المدمّرة للبيئة. وتُحقّق هذه التدابير عدالةً أكبر في الهيكل الضريبيّ وتُولّد إيرادات من دون رفع المعدّلات، كما تُبرز الحاجة الملحّة إلى سياسة بيئيّة وطنيّة توفّق بين الضرائب والتنظيم وتخطيط استخدام الأراضي، بحيث تُدار الموارد البيئيّة بوصفها أصولًا عامّة لا غنائم خاصّة.
ويبقى عنصر الإنفاذ، الحلقة المفقودة بين التشريع والأثر، هو الأضعف. فدولةٌ تفتقر إلى قدرات الإنفاذ والتحصيل لا تستطيع بناء قاعدة ضريبيّة مستدامة. ويمكن للبرلمان تعزيز الإنفاذ من دون تدابير عقابيّة، بل عبر تسهيل التحوّل من الاقتصاد غير الرسميّ إلى الرسميّ، وتحفيز المؤسّسات الصغيرة على إعادة تسجيل عمّالها لدى أنظمة الحماية الاجتماعيّة. وقد تُسهم الإعفاءات المُوجَّهة، وتبسيط الامتثال، والعفو المشروط المرتبط بالتسجيل الإلكترونيّ والفوترة الإلكترونيّة والضمان الاجتماعيّ في تحويل النشاط غير الرسميّ إلى مصدر مستقرّ للإيرادات. ويمكن الحدّ من الأثر التراجعيّ لضريبة القيمة المضافة عبر سلّة ضيّقة من الضروريّات أو عبر رصيد ضريبة القيمة المضافة القابل للاسترداد المرتبط بالهويّة الوطنيّة. كما يسمح تفعيل معيار الإبلاغ المشترك (القانون 55/2016) بتحديد المقيمين اللبنانيّين ذوي المداخيل الخارجيّة وفرض الضريبة على دخل رأس المال المتحرّك الذي يفلت حاليًّا من الشبكة. ويتيح توسيع القانون 144/2019 للبلديّات رصد الأنشطة غير المسجّلة، مقابل حصّة من الإيرادات، ما يعزّز الامتثال في المناطق التي تكون فيها سلطة الدولة أضعف.
ولا تزال الطاقة والبُنى التحتيّة الركيزة الأساسيّة لأيّ مسار تعافٍ موثوق، إلّا أنّ الموازنة تكرّس مقاربةً تقف عند حدود الصيانة، لا عند إصلاح القطاع أو إعادة هيكلته. فمخصّصات الكهرباء لا تتّجه نحو استعادة الخدمة العامّة، ولا يُخصَّص أيّ تمويل لإحياء استكشاف النفط والغاز، ولا تظهر أيّ بوادر جدِّيّة لحوكمة قطاع الاتّصالات أو تحديثه. وتتجاوز آثار هذا الوضع البُعد الاقتصاديّ، إذ أعاد انهيار قطاع الكهرباء تشكيل تراتبيّة السلطة في البلاد: فالأُسَر تدفع لأصحاب المولّدات بسرعة خوفًا من الإنفاذ الشخصيّ المباشر، بينما تعجز الدولة، التي لا توفّر طاقة مستقرّة، ولا تُصدر فواتير دقيقة، ولا تُحصّل، عن ممارسة الحدّ الأدنى من سلطتها. إنّه انعكاسٌ للسيادة حين يخشى المواطن ردّ فعل صاحب مولّد أكثر ممّا يخشى الدولة نفسها.
وتُظهر هذه الديناميّة أنّ الامتناع عن الدفع للدولة ليس تقاعسًا أخلاقيًّا، بل سلوك عقلانيّ في نظامٍ لا تُقدّم فيه الدولة سوى القليل. ولا يستطيع البرلمان ردم فجوة الاستثمار الضخمة في دورة واحدة، لكنّه قادر على إعادة توجيه النفقات الرأسماليّة، على محدوديّتها، نحو تحسينات تُعيد إلى الدولة العتبة الدنيا من السلطة الفعليّة. فالدولة التي لا تقدّم شيئًا لا تستطيع فرض شيء؛ ولذلك فإنّ تحسين التغذية الكهربائيّة ليس أولويّة اقتصاديّة فحسب، بل شرط لاستعادة الامتثال الماليّ والثقة العامّة وشرعيّة السلطة.
وفي كلّ هذه المجالات يتجلّى نمط واحد: الخيارات لا تزال قائمة على الرغم من القيود الماليّة. فآليّةٌ موثوقة لإعادة الإعمار، وهيئات رقابيّة مُفعّلة، وجهاز إحصاء فعّال، وضرائب عقاريّة عادلة، ورسوم بيئيّة مدروسة، ونظام حماية اجتماعيّة مُعاد تأهيله، كلّها كانت ستتطلّب اعتمادات محدودة لكنّها تحمل دلالات مؤسّسيّة وسياسيّة كبيرة. ولو اجتمعت هذه العناصر، لأرسلت إشارة واضحة بأنّ الدولة تتعلّم من انهيارها بدلًا من إعادة إنتاجه. واليوم، يحمل مجلس النوّاب المسؤوليّة، وكذلك الفرصة، لتحويل هذا الوعي إلى فعلٍ تشريعيّ مُلزِم.
من الوعود إلى القياس: مؤشّرات بسيطة لاختبار جدِّيَّة الموازنة
في نظامٍ يتّسم بضعف المؤسّسات وتواضع القدرات الإداريّة، لا يمكن قياس النجاح عبر التحوّلات الجذريّة أو الأهداف الهيكليّة الطموحة. وما يمكن للبرلمان أن يطالب به بشكلٍ واقعيّ، خلال أشهر لا سنوات، هو تغييراتٌ صغيرة لكن قابلة للتحقّق تُشير إلى بداية انضباطٍ مؤسّسيّ، وارتفاع مستوى الشفافية، وتحسّنٍ في العدالة التوزيعيّة. ولا تتطلّب هذه المؤشّرات إنفاقًا جديدًا أو إصلاحاتٍ معقّدة؛ بل تتطلّب ببساطة أن تقيس الدولة ما تفعله فعلًا وأن تُفصح عنه. وفي بيئةٍ شديدة الانخفاض في الثقة، يمكن للتحسينات المتواضعة في إعداد التقارير والتنفيذ أن تُحدث أثرًا كبيرًا في تعزيز الثقة العامّة.
تشمل المجموعة الأولى من المؤشّرات مجالات العدالة التوزيعيّة والعدالة الضريبيّة. صحيح أنّ البرلمان لا يستطيع إصلاح بنية الإيرادات كاملةً في دورة واحدة، لكن بإمكانه مراقبة ما إذا كانت حصّة الإيرادات المتأتّية من الأدوات الضريبيّة التقدّميّة ترتفع ولو هامشيًّا، وما إذا كانت تحديثات الضريبة العقاريّة قد بدأت تدخل حيّز التطبيق، وما إذا كانت تدابير كرصيد ضريبة القيمة المضافة القابل للاسترداد أو التدخّلات الموجّهة تُخفّف العبء عن الفئات ذات الدخل الأدنى. إنّ مثل هذه التغييرات، وإن كانت صغيرة في قيمتها المطلقة، تُشكّل انفصالًا تدريجيًّا عن البنية التراجعيّة التي حكمت السياسة الماليّة طويلًا.
وتُشكّل الشفافية والتنفيذ الركيزة الثانية للرقابة الواقعيّة؛ إذ يمكن للبرلمان أن يطلب نشر جدول فروقات النسخ الموازنيّة الذي يتتبّع كلّ تعديل بين المسوَّدات، إلى جانب بيانٍ بالمطلوبات الطارئة يُحدّد الالتزامات غير المباشرة في الكهرباء والصحّة العامّة والحماية الاجتماعيّة والنزاعات القانونيّة. ويمكنه أيضًا طلب تقارير شهريّة حول الشراء العامّ تُبيّن حصّة العقود التي جرى تلزيمها عبر المنافسة التنافسيّة المفتوحة. ولا تتطلّب أيّ من هذه الخطوات إنشاء مؤسّسات جديدة؛ ما هو مطلوب هو الإفصاح فقط.
أمّا سلامة نظام الحماية الاجتماعيّة فهي المجال الثالث الذي يمكن للبرلمان فرض توقّعاتٍ قابلة للقياس فيه. فمؤشّرات مثل نسب الملاءة الماليّة لفروع الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ، وتطوّر المتأخّرات المستحقّة له، ومتوسّط الوقت اللازم لمعالجة المطالبات، كلّها مؤشّرات قابلة للتحسين عبر قرارات إداريّة لا عبر موارد إضافيّة. وتتبُّعُ هذه المؤشّرات ونشرُها يوفّر الشفافية اللازمة لدعم أيّ خطّة استقرار للضمان الاجتماعيّ.
ويمكن أيضًا اعتبار تثبيت توقّعات التضخّم مجالًا إضافيًّا تُقاس فيه النتائج بالقواعد الواضحة لا عبر زيادة الإنفاق. فبإمكان البرلمان مراقبة صافي السِلَف التي يقدّمها مصرف لبنان مقارنةً بالسقف القانونيّ، وتتبُّع تقلّبات سعر الصرف الجمركيّ ضمن مسار تعديل يمكن التنبّؤ به، والإشراف على هيكليّة تعويضات القطاع العامّ بما يضمن أن تكون المنحُ المقطوعة الموجّهة، لا الفهرسة الشاملة، هي الأداة الأساسيّة لحماية القدرة الشرائيّة. وتُسهم هذه المؤشّرات في احتواء توقّعات التضخّم من دون خلق التزامات ماليّة جديدة.
تُشكِّل هذه التدابير، في مجموعها، إطارًا متواضعًا لكنّه قابل للتحقّق، لتقييم ما إذا كانت موازنة 2026 تدفع البلاد نحو مزيدٍ من المصداقيّة والعدالة والاستقرار. فالنجاح في لبنان اليوم لا يُقاس بالقفزات الكبيرة، بل بمدى انتقال المؤسّسات من التعهّد إلى التنفيذ الفعليّ، ولو تدريجيًّا.
الموازنة لا تصنع الإصلاح بذاتها، لكنّها قادرة على رسم اتّجاهه
وها هو البرلمان يقف أمام لحظةٍ حرِجة وإن كانت قصيرة. فالمشروع الذي تلقّاه هو، في جوانب عديدة، وثيقةٌ تقنيّة–إجرائيّة: متوازنة على الورق، مُنظّمة في ظاهرها، لكنّها تفتقر إلى الرؤية الإستراتيجيّة المطلوبة لتوجيه البلاد خلال الأزمة. ومع ذلك، يمكن للموازنة الإجرائيّة أن تتحوّل إلى موازنة موجَّهَة الغاية. فالفرصة محدودة، والهوامش ضيّقة، والقيود حقيقيّة، لكنّ البرلمان لا يزال قادرًا على تحويل الموازنة إلى وثيقةٍ تُشير إلى مسار السياسات بدلًا من أن تكون مجرّد سجلّ للالتزامات.
ولا يحتاج لبنان إلى موازنةٍ مثاليّة؛ فالكمال غير ممكن ولا منطقيّ في الظروف الراهنة. إنّ ما يحتاج إليه هو موازنةٌ صادقة في افتراضاتها، عادلة في توزيعها، مسؤولة في أولويّاتها، وواقعيّة في التزاماتها؛ موازنة لا تَعِد بما لا تستطيع تنفيذه، ولا تُخفي ما تسعى إلى تجنّبه؛ موازنة تُعيد بناء قابليّة التنبّؤ الماليّ لدى الأسر، وتُرمّم مصداقيّة المؤسّسات، وتُرسّخ حدًّا أدنى من الاستقرار الاقتصاديّ الكلّيّ.
إنّ الخيارات المتاحة اليوم ليست تحويليّة، لكنّها جوهريّة. فضمن الهامش الماليّ المتاح نفسه، يستطيع لبنان أن يختار خيارات مختلفة، عبر ربط الأرقام بالأدلّة، وتوجيه الموارد الشحيحة نحو الأولويّات الحقيقيّة، وحماية ما تبقّى من شبكة الأمان الاجتماعيّ، واستعادة الحدّ الأدنى من الرقابة الفعليّة التي من دونها يصبح التعافي مستحيلًا. إنّها خطواتٌ بسيطة من حيث الكلفة، لكنّها بالغة الأهمِّيَّة من حيث الدلالة.
وهكذا، تصبح موازنةٌ أفضل لعام 2026 ممكنة، لا في النظريّة، بل في التطبيق. فالموازنة باتت الآن في عهدة مجلس النوّاب، الذي يمتلك التفويض والأدوات اللازمة لإحداث أثرٍ فعليّ في مخرجاتها.
هذا المقال هو جزء من تعاون مبادرة سياسات الغد مع اليونيسيف في إطار مشروع مشترك بعنوان " سياسات من أجل مستقبل عادل"، بهدف تعزيز البحث المستقل والدعوة إلى تغيير السياسة العامة. يجدر بالذكر أن اليونيسيف لا تقر بوجهات النظر/التحليلات/الآراء التي يعبر عنها الكتّاب.
From the same author
view all-
02.05.25eng
أزمة لبنان بنيوية، لا وزارية
سامي زغيب, سامي عطاالله -
09.21.23
مشروع موازنة 2023: ضرائب تصيب الفقراء وتعفي الاثرياء
وسيم مكتبي, جورجيا داغر, سامي زغيب, سامي عطاالله -
10.12.22eng
فساد في موازنة لبنان
سامي عطاالله, سامي زغيب -
10.15.24eng
لا عدالة مناخية في خضمّ الحروب
منى خشن, سامي عطاالله -
06.14.24
عطاالله: التدّخل السياسي عقبة أمام تطوّر الإدارة العامة
سامي عطااللهمقابلة مع مدير مبادرة سياسات الغد الدكتور سامي عطاالله أكد أن "التدخل السياسي هو العقبة الرئيسية أمام تطور الإدارة العامة"، وشدد على أن دور الدولة ووجودها ضروريان جدًا لأن لا وجود للاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق من دونها"
اقرأ
More periodicals
view all-
11.21.25
وصفة لتبييض المسؤوليات في مجال الصرف الصحّي: الخلل في الصرف الصحي نظاميّ أيضًا
نزار صاغية, فادي إبراهيمتقدّم هذه الورقة خلاصةً دقيقة لتقرير ديوان المحاسبة الصادر في 27 شباط 2025 بشأن إدارة منظومة الصرف الصحّيّ في لبنان، مبيّنةً ما يعتريه من عموميّة وقصور، وما يكشفه ذلك من خللٍ بنيويّ في منظومة الرقابة والمحاسبة ومن الأسباب العميقة لتعثر محطّات معالجة الصرف الصحّي.
اقرأ -
04.24.25
اقتراح قانون إنشاء مناطق اقتصادية تكنولوجية: تكنولوجيا للبيع في جزر نيوليبرالية
المفكرة القانونية, مبادرة سياسات الغدتهدف هذه المسوّدة إلى تحقيق النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل، غير أنّ تصميمها يصبّ في مصلحة قلّة من المستثمرين العاملين ضمن جيوب مغلقة، يستفيدون من إعفاءات ضريبية وكلفة أجور ومنافع أدنى للعاملين. وبالنتيجة، تُنشئ هذه الصيغة مساراً ريعيّاً فاسداً يُلحق ضرراً بإيرادات الدولة وبحقوق الموظفين وبالتخطيط الإقليمي (تجزئة المناطق). والأسوأ أنّ واضعي السياسات لا يُبدون أيّ اهتمام بتقييم أداء هذه الشركات أو مراقبته للتحقّق من تحقيق الغاية المرجوّة من المنطقة الاقتصاديّة.
اقرأ -
02.05.25eng
أزمة لبنان بنيوية، لا وزارية
سامي زغيب, سامي عطاالله -
10.15.24eng
لا عدالة مناخية في خضمّ الحروب
منى خشن, سامي عطاالله -
06.14.24
عطاالله: التدّخل السياسي عقبة أمام تطوّر الإدارة العامة
سامي عطااللهمقابلة مع مدير مبادرة سياسات الغد الدكتور سامي عطاالله أكد أن "التدخل السياسي هو العقبة الرئيسية أمام تطور الإدارة العامة"، وشدد على أن دور الدولة ووجودها ضروريان جدًا لأن لا وجود للاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق من دونها"
اقرأ -
10.27.23eng
تضامناً مع العدالة وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني
-
09.21.23
مشروع موازنة 2023: ضرائب تصيب الفقراء وتعفي الاثرياء
وسيم مكتبي, جورجيا داغر, سامي زغيب, سامي عطاالله -
09.09.23
بيان بشأن المادة 26 من مشروع قانون الموازنة العامة :2023
المادة ٢٦ من مشروع موازنات عام ٢٠١٣ التي اقرها مجلس الوزراء تشكل إعفاء لأصحاب الثروات الموجودة في الخارج من الضريبة النتيجة عن الأرباح والايرادات المتأتية منها تجاه الدولة اللبنانية. بينما يستمرون في الإقامة بشكل رسمي في لبنان ويتجنبون تكليفهم بالضرائب بالخارج بسبب هذه الإقامة. كما تضمنت المادة نفسها عفواً عاماً لهؤلاء من التهرب الضريبي. وكان مجلس الوزراء قد عمد إلى تعديل المادة 26 من المشروع ال مذكور، فيما كانت وزارة المالية تشددت على العكس من ذلك تماماً في تذكير بالمترتبات والنتائج القانونية والمالية الخطرة لأي تقاعس أو إخلال في تنفيذ الموجبات الضريبية ومنها الملاحقات الجزائية والحجز عىل الممتلكات و الاموال. واللافت أن هذا الإعفاء الذي يشمل ضرائب طائلة يأتي في الفترة التي الدولة هي بأمس الحاجة فيها إلى تأمين موارد تمكنها من إعادة سير مرافقها العامة ومواجهة الأزمة المالية والإقتصادية.
اقرأ -
08.24.23
من أجل تحقيق موحد ومركزي في ملف التدقيق الجنائي
في بيان مشترك مع المفكرة القانونية، مبادرة سياسات الغد، كلنا إرادة، وALDIC، نسلط الضوء على التقرير التمهيدي الذي أصدره Alvarez & Marsal حول ممارسات مصرف لبنان وأهميته كخطوة حاسمة نحو تعزيز الشفافية. ويكشف هذا التقرير عن غياب الحوكمة الرشيدة، وقضايا محاسبية، وخسائر كبيرة. إن المطلوب اليوم هو الضغط من أجل إجراء تدقيق جاد وموحد ومركزي ونشر التقرير رسمياً وبشكل كامل.
اقرأ -
07.27.23
المشكلة وقعت في التعثّر غير المنظّم تعليق دفع سندات اليوروبوندز كان صائباً 100%
-
05.17.23
حشيشة" ماكينزي للنهوض باقتصاد لبنان
-
01.12.23
وينن؟ أين اختفت شعارات المصارف؟
-
10.12.22eng
فساد في موازنة لبنان
سامي عطاالله, سامي زغيب -
06.08.22eng
تطويق الأراضي في أعقاب أزمات لبنان المتعددة
منى خشن -
05.11.22eng
هل للانتخابات في لبنان أهمية؟
كريستيانا باريرا -
05.06.22eng
الانتخابات النيابية: المنافسة تحجب المصالح المشتركة