The Policy Initiative

  • eng
    • share
  • subscribe to our mailing list
    By subscribing to our mailing list you will be kept in the know of all our projects, activities and resources
    Thank you for subscribing to our mailing list.
07.12.22

أفقِر تسُد: كيف استجابت الدولة اللبنانية للأزمة المالية؟

وسيم مكتبي,
سامي زغيب,
سامي عطا الله

عند توقّف القتال والمعارك الضارية في أوائل تسعينيات القرن الماضي بعد خمس عشرة سنةً من الحرب الأهلية في لبنان، كان البلد في حالة من التفكّك والانهيار على جميع المستويات جعلته شبحًا لكيانٍ لم يعد يشبه نفسه. وعلى الرغم من الخطط الكبرى للتطوير وإعادة الإعمار التي روّجت لها النخب السياسية في فترة ما بعد الحرب، فقد أثبتت العقود اللاحقة أنها لم تكن إلا مجرّد أوهام جرّت البلاد نحو القاع. فقد حوّلت الوعود الكاذبة الدولة اللبنانية المفكّكة إلى أداة طفيلية فاسدة راكمت من خلالها النخب الطائفية الثروات في جيوبها وجيوب رعاتها الأجانب، في حين استمرّ نزيف هجرة اللبنانيين إلى الخارج بحثًا عن الفرص والعيش الكريم.

وكانت الرافعة التي بدا أنها ساعدت البلد على الوقوف قطاعه المصرفي المرموق وحاكم البنك المركزي الذي لا يُهزَم، والذي لطالما حظي بالتبجيل باعتباره المطّلع الوحيد دون سواه على خبايا الأمور، والشخص الذي يبقي البلد واقتصاده صامدين. ولكن، تبين أنّ هذه الثقة بالقطاع المالي لم تكن سوى عنجهية غير مبرّرة، حيث يواجه لبنان حاليًا واحدة من أشد الأزمات المالية التي شهدها العالم منذ قرنٍ ونصف قرن، والتي نتجت عن انهيار مخطط بونزي الذي أدارته الدولة والقطاع المصرفي1.  

منذ العام 2019، انخفضت قيمة العملة المحلية – وهي الليرة اللبنانية - بشكل حاد، وتقلص حجم الاقتصاد إلى النصف، وارتفع معدل التضخم إلى مستوياتٍ غير مسبوقة2. وفي حين أن الأزمات عادةً ما تكون لحظات مفصلية تدفع نحو التغيير السياسي، إلا أن لبنان شذّ عن هذه المقولة السائدة3. فعلى الرغم من انقضاء ثلاث سنوات على بداية الأزمة، لم تُشرَّع أي من الإصلاحات الهيكلية الاقتصادية والنقدية والقضائية والإدارية. بالمقابل، استجابت النخب السياسية والاقتصادية في البلاد للأزمة عبر تخريب الإصلاحات وتأخير أي استقرار اجتماعي واقتصادي، ما أدى فعليًّا إلى إفقار المجتمع أكثر. وبموازاة فشل الدولة في اعتماد خطة التعافي المالي، نقلت خطة الظلّ الخفية التي اعتمدتها النخب عبء الأزمة من المصارف ومساهميها وكبار المودعين إلى كاهل المواطنين العاديين من خلال تكاليف التضخم وانخفاض قيمة العملة وفرض لولرة الودائع المصرفية بالدولار4.  

ولتحقيق ذلك، أدّت كل مؤسسة سياسية واقتصادية في الدولة دورًا أساسيًّا في تنفيذ خطة الظل هذه5. وقاد مصرف لبنان (البنك المركزي) الاستجابة للأزمة من خلال تدخلات نقدية مريبة خفضت التزامات المصارف التجارية، غاضًّا الطرف عن التحويلات الكبيرة للثروات إلى الخارج. وكانت الحكومة، المشلولة إلى حد كبير طوال فترة الأزمة، مكبّلةً سياسيًا من قبل النخب الحاكمة وسعت فقط إلى كسب الوقت لتفعيل خطة الظل. عمل مجلس النواب كأداة تشريعية لحماية مصالح النخبة، معطلًا أي مقترحات لقوانين إصلاحية من شأنها إحداث تغيير. من جهته، فتح القضاء المسيّس خط دفاع عن المصارف التجارية وأصحابها وحاكم المصرف المركزي في مواجهة أي شكل من أشكال المحاسبة على أفعالهم.


المايسترو: مصرف لبنان قائدًا لعملية الاستجابة للأزمة


أملى حاكم البنك المركزي رياض سلامة، الذي كلّفته الأحزاب السياسية اللبنانية التقليدية منذ عام 1993، كيفية الاستجابة للأزمة بطريقة استنسابية لصالح الشخصيات السياسية التي يحميها والمصارف التجارية. فعلى المستوى المؤسسي، ضاعف عدد ووتيرة التعميمات التي أصدرها مصرف لبنان خلال الأزمة مقارنة بفترة ما قبل الأزمة (الرسم 1) 6.  

أولًا، واعتبارًا من نيسان 2020، فرض مصرف لبنان على المصارف إجراء تخفيض فعلي "هيركات" على الودائع بالدولار، ما أجبر المودعين على السحب بالليرة اللبنانية من حساباتهم بالدولار وفق سعر صرفٍ محدّد أقل بكثير من سعر السوق7. وقد سمح هذا للمصارف التجارية بتخفيض التزاماتها تدريجيًا، في حين شاهد صغار المودعين قيمة الأموال التي جنوها بشق الأنفس تتآكل بسرعة.

الرسم 1: النشاط المؤسسي لمصرف لبنان


ثانيًا، واعتبارًا من كانون الثاني 2022، تدخل مصرف لبنان وبقوة في سوق العملات لتثبيت سعر الليرة اللبنانية مؤقتًا عند 20 ألف ليرة للدولار، ما أوحى صوريًّا باستقرار نقدي قبيل انتخابات أيار 2022 النيابية. وأدى هذا الإجراء ذو الدوافع السياسية إلى إهدار أكثر من ملياري دولار من احتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية. فبحلول تموز 2022، فقدت الليرة اللبنانية مرة أخرى قيمتها الهامشية المصطنعة.

ثالثًا، مع قيام مصرف لبنان بتحييد لجنة الرقابة على المصارف ولجنة التحقيق الخاصة، سمح فعليًّا بتحويل ثروات النخب السياسية والاقتصادية إلى الخارج، فيما عانى المودعون في الفترة نفسها من إجراءات الكابيتال كونترول غير المنظمة المفروضة على رؤوس الأموال. وقدّر مدير عام سابق لوزارة المالية أن ستة مليارات دولار قد "هُرَّبت" إلى الخارج8.

خفضت هذه الإجراءات الثلاثة الكبرى التي اتّخذت بين آب 2019 وأيار 2022 بشكل مباشر حجم احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية بأكثر من 18 مليار دولار (60%) وودائع المصارف التجارية بمقدار 45 مليار دولار (25%)، وتمّ كل ذلك في غياب خطة شاملة للتعافي المالي.


التذرّع: حكومة غارقة في دور تصريف الأعمال والقيود السياسية

 

منذ نشوب الأزمة في آب 2019، انحصر دور السلطة التنفيذية في لبنان بتصريف الأعمال طوال 16 شهرًا - أي ما يعادل أكثر من ثلث فترة الأزمة. شهدت البلاد خلالها ثلاثة عهود حكومية وتكليف رئيسين فشلا في تأليف حكومة. مقارنةً بفترة ما قبل الأزمة، أظهر نشاط الحكومة تدنّيًا في مستوى التعاون السياسي، حيث تراجع إصدار المراسيم بمقدار الثلث (الرسم 2)9. اضطرت الحكومة الأولى التي أدارت البلاد خلال فترة الأزمة إلى الاستقالة على خلفية تظاهرات شعبية حاشدة انطلقت عام 2019. أما الحكومة الثانية برئاسة حسان دياب والتي ضمت عدة وجوه من التكنوقراط، فقد تخلفت عن سداد الديون السيادية بطريقة غير مدروسة وصاغت خطة للتعافي المالي أخذت على عاتقها إنقاذ كبار المودعين وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، من بين بنود إصلاحية أخرى، في غضون أول 100 يوم من ولايتها. إلا أن الخطة سرعان ما أصبحت طيّ النسيان بعد ما تخلت عنها الحكومة نفسها وحاربتها جمعية المصارف اللبنانية والأحزاب التقليدية في مجلس النواب. كما قامت حكومة دياب بوضع خطة دعم بمفعول رجعي استنزفت حوالي 287 مليون دولار شهريًا من احتياطيات البلاد من العملة الأجنبية، واستفاد منها بشكل أساسي المستوردون المحتكرون للأسواق والمدعومون من الأحزاب السياسية10.

الرسم 2: نشاط الحكومة

                                                                                              المصدر: الجريدة الرسمية

 

ملاحظة: تشير المناطق الرمادية إلى الفترات التي أصبحت فيها الحكومة حكومة تصريف أعمال، وتشير المنطقة الخضراء إلى الفترة التي جرت فيها مقاطعة جلسات مجلس الوزراء.

تألفت الحكومة الثالثة، برئاسة نجيب ميقاتي – وهو رئيس حكومة سابق طالته مزاعم الفساد-، وبمشاركة معظم الأحزاب السياسية التقليدية، وهدفت بشكل أساسي إلى تجهيز بيئة سياسية واقتصادية حاضنة لهذه الأحزاب نفسها لتستعيد شرعيتها في انتخابات أيار 2022- وهو ما حصل بالفعل. توصلت حكومة ميقاتي إلى إبرام اتفاقية على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي قبل شهرٍ واحد فقط من الانتخابات، ووافقت على خطة التعافي المالي الجديدة في آخر يوم من ولايتها.


حامي مصالح النخبة: مجلس النواب يعطل الإصلاحات المطلوبة للتعافي من الأزمة

 

طوال فترة الأزمة، حافظ مجلس النواب على مصالح من استولوا عليه. ولعلّ القول إنّ المجلس لم يصدر عددًا كافيًا من التشريعات يشكّل توصيفًا مخفَّفًا للوضع11، حيث كان المجلس في حالة تأهب قصوى لتعطيل أي إصلاح قد يقف عائقًا أمام خطة الظل التي تحمي مصالح النخب. وقد تجلّت هذه الحالة في مسعيين: تقويض خطة التعافي المالي التي وضعتها الحكومة ورفض تدابير الكابيتال كونترول.

أولًا، وبعد أن توقعت حكومة دياب أن يقتضي حجم الخسائر المالية إنقاذ مساهمي المصارف وكبار مودعيها، شكل مجلس النواب لجنةً لتقصي الحقائق ضمّت أعضاءً من الأحزاب السياسية على اختلاف أطيافها قلّلت من تقدير حجم الخسائر، وبالتالي خفّفت العبء عن كاهل البنوك12. ثانيًا، عرقلت لجنة المال والموازنة النيابية مشروع قانون الكابيتال كونترول حتى باتت الأهداف المتوخّاة منه بلا طائل، بعد أن كان قد تم بالفعل تحويل مليارات الدولارات إلى خارج البلاد منذ تشرين الأول 201913. لم يصل مشروع القانون حتى إلى الجمعية العامة لمجلس النواب للتصويت عليه إلا في تشرين الأول 2021، وقد أعيد إلى اللجنة حيث ما زال يرزح تحت راية المداولات.


 الملاذ الأخير: القضاء يحمي المصارف ويوفّر لها غطاءً قانونيًا

 

الإفلات من العقاب ليس بالأمر الجديد في لبنان، وقد بلغ خلال الأزمة المالية مستوياتٍ غير مسبوقة. فقد فشل القضاء- بدءًا من النائب العام لدى محكمة التمييز والنائب العام المالي وصولًا إلى أصغر قاضٍ- في محاسبة أي مصرف في ظلّ استمرار المصارف في انتهاك القوانين اللبنانية، تاركًا المواطن العادي تحت رحمتها.

حدّدت المصارف قيودًا غير قانونية على السحوبات ولم تسدّد أموال المودعين بالعملة التي تم إيداعها بها في الأصل، مخالفةً بذلك قانون التجارة14. علاوة على ذلك، يشير القانون 2/1967 إلى أنّه على المصارف إعلان الإفلاس في حال عجزها عن تسديد الودائع - وهي عملية قد تفرض على مالكي المصارف التزامات شخصية أو تمنعهم من ممارسة أدوارهم 15. ومع ذلك، لم يُطبَّق هذا القانون ولم يعلن أي من المصارف إفلاسه.

نجحت بعض القضايا القانونية في حالات استثنائية في إلزام البنوك بتحويل الودائع التي تدين بها لأصحابها الشرعيين، لكن معظم القرارات القضائية التي نُفِّذت صدرت عن محاكم أجنبية 16، في حين فشلت القضايا المرفوعة محليًّا17. ومع ذلك، أخفقت حتى القرارات القضائية الصادرة عن محاكم أجنبية في ردع بعض السلوكيات الفاضحة للمصارف، حيث عمد أحدها إلى إغلاق حسابات عدد من المودعين البريطانيين بعد أن حكمت محكمة في لندن لصالح أحدهم18.   

 

كم كانت تكلفة هذه الاستجابة؟

 

تعاملت النخب السياسية والاقتصادية في لبنان مع الأزمة المالية بشكل يخدم مصالحها الذاتية. وقد أدّى ذلك بشكل مباشر إلى إطالة أمد الأزمة بل وتحويلها إلى انهيار اجتماعي اقتصادي ستمتد تبعاته لأجيال. في أيلول 2021، أشارت التقديرات إلى أن 82% من السكان يعيشون في فقر متعدد الأبعاد ويكافحون من أجل الحصول على الرعاية الصحية الأساسية والتعليم والطعام 19.  وفي الفترة الممتدة بين تشرين الثاني وكانون الأول 2021، بلغ معدل البطالة 40%20،  مع تقاضي غالبية العمال أجورهم بالليرة اللبنانية التي فقدت قيمتها. 

ولكي يتعافى لبنان من مأزقه الوجودي العميق، من الضروري طيّ صفحة الماضي، بعد الانهيار السريع والمخزي لنموذج الاقتصاد السياسي الذي ساد في فترة ما بعد الحرب – وهو نظام قام على سيطرة متفشية للنخب. ولا بد لأي خطة تعافٍ مالي ألا تقتصر على معالجة الإخفاقات الاقتصادية والقضائية والإدارية التي قادت البلاد إلى ما هي عليه فحسب، بل عليها أيضًا أن تعتمد سياسة حماية اجتماعية لا تقل أهمية تعالج مكامن الخلل الحادة وتمهد الطريق لعقد اجتماعي جديد يعيد المواطنين إلى كنف الدولة.


From the same author

view all

More periodicals

view all
Search
Back to top