The Policy Initiative

  • eng
    • share
  • subscribe to our mailing list
    By subscribing to our mailing list you will be kept in the know of all our projects, activities and resources
    Thank you for subscribing to our mailing list.
09.08.25

إعادة إعمار جنوب لبنان من دون أموال عامّة أو قروض خارجيّة

جمال ابراهيم حيدر

يشكّل جنوب لبنان، بما يزخر به من موارد طبيعيّة، وثقافة غنيّة، ورأس مال بشريّ واعد، إحدى أكثر المناطق اللبنانيّة التي عانت من التهميش المزمن، نتيجة الاضطرابات السياسيّة، والهواجس الأمنيّة، وضعف الاستثمار. وفي أعقاب الدمار الذي لحق به مؤخرًا، وسط الانهيار الاقتصاديّ المتواصل، تواجه هذه المنطقة تحدّيًا جسيمًا: إعادة بناء البنى التحتيّة، وتحفيز النشاط الاقتصاديّ، وإنعاش القطاع الخاصّ، وبناء ركائز الصمود على المدى الطويل. تقليديًّا، كانت هذه المهمّات تُموَّل عبر القروض الخارجيّة، أو المساعدات الدوليّة، أو الميزانيّة العامّة للدولة. غير أنّ الإفلاس الماليّ الذي تعانيه الدولة اللبنانيّة، والغموض الذي يحيط بالمساعدات الخارجيّة أو خضوعها لقيود سياسيّة، يفرضان على الحكومة ضرورة البحث عن أدوات بديلة غير ماليّة تُحفّز الاستثمار الخاصّ. ويمكن لنهج مبتكر، جريء، قائم على الاعتماد على الذات، أن يُمكّن الحكومة من الإسهام فعليًّا في جهود التعافي، من دون اللجوء إلى الأموال العامّة أو تكبّد ديون جديدة.

وما يبعث على التفاؤل، أنّ الحوافز لا تكون ماليّة بالضرورة. فقد نجحت حكومات عديدة حول العالم في تحفيز النموّ من خلال الإصلاحات القانونيّة، وتحسين الأطر التنظيميّة، وتفعيل استخدام الأراضي، وإقامة شراكات إستراتيجيّة. تقدّم هذه المقالة خارطة طريق تبيّن كيف يمكن للحكومة اللبنانيّة أن تضطلع بدور الميسّر والمنظّم والمحفّز لإعادة بناء اقتصاد جنوب لبنان وإطلاقه من جديد، وذلك من خلال استثمار الأصول القائمة، وتفعيل القوانين المعطّلة، وتطبيق سياسات عامّة رصينة.

1. الأرض والعقارات بوصفها أدوات للتنمية

يُعدّ تفعيل قيمة الأراضي والعقارات أمرًا أساسيًّا في مسار إعادة الإعمار. فالجنوب يمتلك مساحات شاسعة من الأراضي غير المُستثمرة، بما في ذلك أملاك الدولة والمواقع المهجورة. وبدلًا من بيع هذه العقارات، وهي عمليّة حسّاسة سياسيًّا، يمكن للحكومة أن تطرح عقود إيجار تمتدّ بين 25 و50 عامًا في مجالات الزراعة، والخدمات اللوجستيّة، والمصانع، والسياحة. كما يمكنها تخصيص مناطق صناعيّة، وزراعيّة تصنيعيّة، وسياحة بيئيّة، مع ضمان حقوق المستثمرين من خلال عقود شفّافة وواضحة. كذلك تمتلك الأوقاف الدينيّة والخيريّة أصولًا غير مُستثمرة بعد. ويمكن، من خلال أطر قانونيّة مناسبة، السماح للمساجد والكنائس بتأجير الأراضي للمؤسّسات الاجتماعيّة أو الإسكان، أو الدخول في شراكات مشتركة في مجالات التعليم والصحّة والسكن. من شأن هذه الإجراءات أن تُحوّل الأرض إلى رأس مال غير نقديّ، يُحفّز البناء، ويخلق الوظائف، ويحرّك النشاط الاقتصاديّ. 

2. حوافز ضريبيّة وجمركيّة ذكيّة

على الرغم من عجز لبنان عن تحمّل تكاليف الدعم الماليّ، يمكنه اللجوء إلى حوافز ضريبيّة لها تكلفة أوّليّة محدودة، لكنّها تدرّ إيرادات طويلة الأمد. تشمل هذه الحوافز إعفاءات ضريبيّة لمدّة عشر سنوات للشركات التي تستثمر في خلق فرص عمل، وإعفاءات جمركيّة للمعدّات المُستخدَمة في الجنوب، مثل الآلات، والألواح الشمسيّة وأنظمة الريّ. إنّ مثل هذه الحوافز تخفّض من تكاليف الانطلاق، وتجعل المنطقة أكثر جذبًا للمستثمرين، من دون الحاجة إلى إنفاق مباشر من الخزينة.

3. الإصلاحات السياسيّة والتنظيميّة

يُعدّ إصلاح السياسات أمرًا بالغ الأهمِّيَّة لجذب رأس المال الخاصّ. ومن أقوى أدوات الحكومة: التبسيط الإداريّ. فالبدء بمشروع تجاريّ في لبنان أو توسيعه يُعدّان من أكثر الإجراءات بيروقراطيّة في المنطقة، وأكثرها تعقيدًا. من شأن إنشاء "منصّة موحّدة"، سواء أكانت رقميّة أم ماديّة، مخصّصة لجنوب لبنان، أن تُسهّل إصدار الرخص، وتسجيل الضرائب، والموافقات العقاريّة. كما يمكن أن تُمنح القطاعات ذات الأولويّة مثل البناء، والزراعة، والتصنيع الغذائيّ، والطاقة المتجدّدة، والسياحة، مسارات ترخيص سريعة. كذلك، يُمكن وضع جداول زمنيّة واضحة للتصاريح، وتطبيق العقود بسرعة، وإنشاء محاكم متخصّصة لفضّ النزاعات، ما يحدّ من حالة عدم اليقين.

4. الابتكار وريادة الأعمال

يمكن دعم الابتكار وريادة الأعمال من دون إنفاق إضافيّ؛ إذ يمكن تحويل المباني العامّة أو البلديّة الشاغرة إلى حاضنات أعمال أو مساحات إنتاجيّة مشتركة. كما يمكن إقامة شراكات مع الجامعات لتوسيع التدريب المهنيّ، وتوفير التمويل الصغير، والإرشاد في مجالات التصنيع الغذائيّ والطاقة المتجدّدة والتكنولوجيا الزراعيّة. كذلك، يمكن إنشاء سجلّ للمورّدين والخدمات المحلّيّة لمساعدة الشركات الناشئة على التواصل مع شركاء وبناء سلاسل توريد محلِّيَّة.

5. الاستفادة من طاقات المغتربين

يمتلك مغتربو الجنوب اللبنانيّ رأس مال ماليّ، ومهارات، وشبكات عالميّة. وبدلًا من الاعتماد على التبرّعات، يمكن للحكومة إنشاء "صندوق استثماريّ لمغتربي الجنوب اللبنانيّ"، بإدارة مستقلّة ودعم سياسيّ، لجمع رؤوس الأموال في مشاريع ربحيّة مثل المزارع الشمسيّة، أو البيوت الزراعيّة البلاستيكيّة، أو السياحة، أو البنية التحتيّة الرقميّة. كما يمكن إصدار "سندات إعادة إعمار" تستهدف المستثمرين من أبناء الاغتراب وتقدّم عوائد معفاة من الضرائب، تُربط بمشاريع محدّدة في الجنوب. وتُتيح برامج تبادل المهارات ربط المهندسين والأطبّاء والخبراء التقنيّين من أبناء الاغتراب بالمؤسّسات المحلِّيَّة، من خلال التعاون عن بُعد أو الزمالات القصيرة الأمد. تسهم هذه التدابير في جذب العملات الأجنبيّة الصعبة، وتحفيز رأس المال الخاصّ، وربط المنطقة بالأسواق العالميّة.

6. النماذج التعاونيّة للاقتصادات المحلِّيَّة

يمكن إنعاش الاقتصادات المحلِّيّة من خلال النماذج التعاونيّة. فبدلًا من الاعتماد على الخدمات التي تديرها الدولة أو على المساعدات، يمكن للحكومة أن تمكّن الزراعة، والحِرَف، والصناعات الصغيرة عبر التعاونيّات. وقد يشمل الدعم تخفيض رسوم التسجيل، وتقديم قوالب جاهزة للحوكمة، وربط التعاونيّات بالمصارف والمشترين. ويمكن أن تؤدي "رابطة التعاونيّات الجنوبيّة" دور هيئة تنظيميّة جامعة، تساعد تعاونيّات الألبان، وزيت الزيتون، والحمضيّات، والحِرَف اليدويّة، من خلال التدريب، والشراء بالجملة، ومنصّات التجارة الإلكترونيّة. كما يمكن السماح للتعاونيّات بالعمل على الأراضي العامّة بموجب عقود إيجار واضحة، ما يسهم في إعادة توليد فرص العمل في المناطق المفرغة من السكّان أو المتضرّرة جرّاء الحرب. 

7. السياحة والموارد الثقافيّة

يمكن تحويل الموارد الطبيعيّة والثقافيّة في جنوب لبنان إلى مصدر للعائدات. فجباله، وأنهاره، ومواقعه الأثريّة تمتلك إمكانات هائلة للسياحة البيئيّة والصناعات الثقافيّة. كما يمكن للحكومة أن تمنح روّاد أعمال موثوقين أو تعاونيّات امتيازاتٍ لإدارة المواقع التراثيّة أو الحدائق البيئيّة مقابل التزامهم بالصيانة وخلق فرص العمل. كما يمكن لـ"مسرّع السياحة في جنوب لبنان" أن يقدّم الدعم لروّاد الأعمال في إعداد خطط الأعمال، وبناء العلامات التجاريّة، والتسويق الرقميّ. ويسهم الترويج للسياحة الزراعيّة، التي تربط بين المزارعين وبيوت الضيافة والمطبخ المحلّيّ، في زيادة دخل المناطق الريفيّة، وإعادة تشكيل صورة المنطقة على المستوى العالميّ.

الخاتمة

لا شكّ في أنّ القيود التي تواجه لبنان شديدة، إلّا أنّ ذلك لا يمكن أن يشكّل ذريعةً للفشل؛ إذ من خلال الانتقال من دور المُنفِق إلى دور الممكِّن، تستطيع الحكومة أن تُطلق عمليّة إعادة الإعمار والنهوض في الجنوب اللبنانيّ. فمن طريق إصلاح الأراضي، وتمكين التعاونيّات، وتفعيل مشاركة المغتربين، وتنظيم السياسات بذكاء، يمكنها جذب الاستثمارات، وتحريك المجتمعات، واستعادة الكرامة، من دون إنفاق الأموال العامّة أو الاستدانة من جديد.

قد تشكّل تجربة تعافي الجنوب نموذجًا لبقيّة مناطق لبنان، ولسواه من المناطق الخارجة من النزاع، والطامحة إلى الاعتماد على الذات والتنمية المستدامة. وما تحتاج إليه عمليّة إعادة إعمار الجنوب ليس استدانة جديدة، بل مزيج ذكيّ من السياسات والإرادة السياسيّة الحقيقيّة، تؤهّل الدولة إلى تأدية دور الميسّر والمنظّم والضامن. ومن خلال إزالة العوائق، وتوفير الأراضي، وتوضيح الأطر القانونيّة، وتقديم الحوافز الضريبيّة، وتعبئة طاقات المجتمع المحلّيّ والمغترب، تستطيع الحكومة اللبنانيّة أن تُحوّل الجنوب من منطقة أزمة إلى مختبر لنموّ ابتكاريّ يقوده المجتمع، مثبتةً أنّ التعافي من دون أموال عامّة ليس ممكنًا فقط، بل هو قابل للاستدامة أيضًا.

 


From the same author

view all

More periodicals

view all
Search
Back to top