- eng
-
- share
-
subscribe to our mailing listBy subscribing to our mailing list you will be kept in the know of all our projects, activities and resourcesThank you for subscribing to our mailing list.
إعادة بناء سيادة لبنان: ضرورة وطنيّة

خلّفت الحرب الإسرائيليّة على لبنان عام 2024 دمارًا واسعًا، وما زال العنف قائمًا، إذ يستمرّ القصف الأسبوعيّ الذي يبقي البلاد، إلى جانب الاحتلال، في حالة من الشلل القاتل. فقد انهارت المنازل، وزالت البُنى التحتيّة، وتفكّكت العائلات، وظلّت مجتمعات كثيرة تعيش عمليّات التهجير القسريّ. ومع ذلك، لا يمكن أن تنتظر عمليّة إعادة الإعمار توقّف النار، لأنّ الحاجة إلى إستراتيجيّة عاجلة تعيد وضع البلاد على مسار التعافي باتت أكثر إلحاحًا من أيّ وقت مضى. وفي هذا السياق، جعلت الحكومة ملفّ إعادة الإعمار أولويّة، فيما تتردّد الدعوات إلى اعتماد مقاربة مناسبة في أروقة الحكم، وضمن اجتماعات المانحين، وفي مجالس الوكالات الإنسانيّة. غير أنّ هذه الدعوات تعيد إلى الأذهان تجارب سابقة، حين تحوّلت عمليّات إعادة الإعمار إلى أدواتٍ عمّقت الارتهان للخارج، ورسّخت نظامًا داخليًّا مشلولًا، ما أدّى في نهاية المطاف إلى تقويض السيادة الوطنيّة.
وهذه ليست المرّة الأولى الّتي تتحوّل فيها مناطق من لبنان إلى أنقاض. غير أنّ عمق الأزمة التي تعصف بالدولة بلغ مستوى مقلقًا: فالبُنى التحتيّة شديدة العجز، والحُكم على المستوى المناطقيّ غير متوازن ومثار جدل عميق، والسيادة تتعرّض لتحدّيات جسيمة من الداخل والخارج. باختصار، باتت مشروعيّة حكم الدولة نفسها موضع تساؤل. ومن الواضح أنّ هذا الواقع القاتم يجد جذوره في الحرب الأهليّة، ولا سيما في تداعياتها، بحيث اختارت الدولة اللبنانيّة باستمرار أن تؤدّي دور الوسيط بدلًا من بناء إطار حوكمة وطنيّة، ما جعلها تعتمد بدرجة كبيرة على المساعدات الخارجيّة والاستدانة. والأسوأ أنّ الدولة تفكّكت في غاياتها، ولم تستعد حضورها على كامل الأراضي بعد الحرب الأهليّة (1975–1990). ولم يكن هذا الانسحاب مجرّد عجز، إنّما عَكَسَ نمطًا أعمق من الحوكمة الانتقائيّة الّتي فضّلت، منذ الاستقلال، المساحات الجاذبة لرأس المال وأهملت تلك التي عُدَّت هامشيّة.
في هذا المنعطف الراهن من التاريخ اللبنانيّ، تتقاطع أزمتان بنيويّتان: عجز الدولة عن حماية مواطنيها، والتطبيع طويل الأمد مع تفويض الحكم لطوائف وجهات غير رسميّة. وقد أسهم هذان المساران في تقويض إمكانيّة بناء مشروع وطنيّ جامع.
وعليه، يتركّز هذا المقال على ضرورة عدم اختزال إعادة الإعمار في إعادة بناء ما تهدّم فحسب، إذ ينبغي أن تُوظَّف بوصفها فرصةً لتفكيك البُنيتين المأزومتَين، ولإعادة تعريف دور الدولة، وإرساء السيادة على أساسٍ مؤسّسيّ، وترميم النسيج الوطنيّ الذي تمزّق بفعل عقود من الإقصاء والتخلّي الانتقائيّ. ولكي تكون هذه العمليّة ذات معنى وجدوى، لا بدّ من أن تستعيد الدولة سيادتها استعادةً فعليّة – لا عبر الاستعراضات الرمزيّة أو الانتشار العسكريّ – بل من خلال تحمّل مسؤوليّاتها المركزيّة عبر مؤسّسات موحَّدة، وتعبئة الموارد الداخليّة قبل الاستنجاد بالمساعدات الخارجيّة، والإفادة من الكفاءات الوطنيّة، وضمان مشاركة مجتمعيّة حقيقيّة. عندئذ فقط، يمكن للبنان أن يُعيد بناء ما هو أبعد من الحجارة والركام: أن يُرمّم الثقة، ويُعيد اللحمة الاجتماعيّة، ويستعيد شرعيّة الدولة، إذ لا قيام لسيادة حقيقيّة من دون هذه الأركان.
أزمة الدولة في لبنان
تتمثّل الأزمة التي يعيشها لبنان اليوم، في جوهرها، في أزمة كيانيّة للدولة. ففي صلبها يكمن تآكل شرعيّة الدولة وسلطتها وحضورها الفعليّ على كامل أراضيها. وقد بات هذا الانكفاء جليًّا بوضوح في ما يُعرف بـ"هوامش" الجغرافيا اللبنانيّة: من الريف العكّاري في الشمال، إلى الهرمل والمناطق الحدوديّة الشماليّة الشرقيّة، وصولًا إلى الضواحي المُهمّشة للمدن الكبرى، مثل ضواحي بيروت الشرقيّة والجنوبيّة. فقد حُكِمت هذه المناطق، لعقود، بوصفها "مناطق استثناء" تتلقّى حضورًا متقطّعًا من الدولة، وخدمات مشروطة، وتدخّلات أمنيّة ظرفيّة، بدلًا من استثمارات مستدامة أو حوكمة خاضعة للمساءلة. ومع مرور الوقت، اتّسع هذا الانسحاب، فترك مساحات شاسعة تُديرها قوى عسكريّة غير رسميّة وجهات غير حكوميّة، ممّا ولّد واقعًا مشتركًا من التهميش، والزبائنيّة، والأمننة، والإهمال، وأدّى إلى تفكُّك السيادة وتعميق الفجوات الاجتماعيّة والمناطقيّة.
من بين المناطق المهمّشة، يمثّل جنوب لبنان تجلّيًا كثيفًا لهذه الديناميّات. فقد ارتبط تاريخيًّا ارتباطًا وثيقًا بمنطقة الجليل، اجتماعيًّا واقتصاديًّا، قبل أن يُفصل عنها بعنف بعد نكبة عام 1948، ويتحوّل إلى حدود عسكريّة تتعرّض بشكل متكرّر للعدوان الإسرائيليّ. وخلال فترة الاحتلال الإسرائيليّ بين عامَي 1978 و2000، كرّس الاحتلال الإسرائيليّ عزل الجنوب عن الدولة اللبنانيّة، مؤسّسيًّا وميدانيًّا. وبعد الانسحاب الإسرائيليّ عام 2000، لم تُستَعَد الدولة إلّا رمزيًّا، إذ أوكلت مهمّة الحوكمة وإعادة الإعمار إلى قوى سياسيّة-طائفيّة – وفي مقدّمتها حزب الله وحركة أمل – وإلى المانحين الدوليّين، ما جعل السيادة في الجنوب مُجتزَأة، مُفَوَّضة، ومحطّ نزاع.
لقد عمّقت الحرب الإسرائيليّة عام 2024 هذا المسار التاريخيّ، إذ كان الجنوب مرّة أخرى في عين العاصفة، متحمّلًا العبء الأكبر من العدوان الإسرائيليّ، ما كشف بوضوح عجز الدولة – أو إحجامها – عن حماية هذه المنطقة أو إدارتها بشكل فعّال. لكنّ مأساة الدمار التي حلّت بالجنوب ليست حالة استثنائيّة، بل هي انعكاسٌ لأزمة أوسع تعصف بالعديد من المناطق اللبنانيّة "المُهَمَّشة"، سواء في القرى الحدوديّة الشماليّة الشرقيّة، أو في الأرياف الفقيرة مثل عكّار، أو في الأحياء المدينيّة المنسيّة والمهمّشة. لقد أدّى غياب الدولة الفاعلة إلى تقويض التماسك الوطنيّ، وفتح المجال أمام الزبائنيّة الطائفيّة، وأفقد البلاد وحدتها الجغرافيّة والسياسيّة.
ما أهمِّيَّة إعادةِ إعمارٍ سياديّة؟
يقتضي التعافي الفعّال في مرحلة ما بعد الكارثة فهم الخراب الذي خلّفته الحرب في سياق البُنى التي قوّضت قدرة لبنان على الصمود، وجعلت المنازل والمجتمعات عرضةً للانهيار. ولكي تنقلب المعادلة، يتعيّن فصل عمليّة التعافي بعد الحرب عن النماذج السابقة التي كرّست التبعيّة للمساعدات الخارجيّة والديون، وفوّضت بصورة منهجيّة مهامّ إعادة الإعمار الجوهريّة إلى القطاع الخاصّ والمنظّمات غير الربحيّة. صحيح أنّ الدعم الدوليّ يبقى ضروريًّا، لكن لا بدّ من أن يُبنى على إستراتيجيّة وطنيّة متماسكة، تقودها الدولة اللبنانيّة دون سواها.
تشكّل إعادة الإعمار السياديّة نقيضًا مباشرًا لهذا المسار السابق. فالسيادة هنا تعني أنّ الدولة اللبنانيّة – لا المانحون الأجانب ولا الفاعلون السياسيّون الطائفيّون – هي الّتي ترسم أجندة الإعمار، وتُنسّق الموارد، وتقود عمليّات التنفيذ. ولا يعني هذا رفض الدعم الخارجيّ، بل التأكّد من انسجامه الكامل مع الأولويّات الوطنيّة. فالسيادة تَحول دون تحوّل الدولة إلى مجرّد وسيط لوجستيّ، وتُكرّس دورها بوصفها سلطة حاكمة خاضعة للمساءلة وفعّالة.
في السياق اللبنانيّ، لا تُختزل إعادة الإعمار السياديّة في الكفاءة المؤسّسيّة، بل تتّخذ بعدًا وجوديًّا. لقد أحيت الحرب الأخيرة نزعات خطرة نحو تأطير المآسي الوطنيّة ضمن قوالب طائفيّة. فقد جرى، في بعض الخطابات، تصويرُ ما لحق بالجنوب على أنّه عبءٌ مجتمعيّ خاصّ ناتج من خيارات طائفة بعينها، لا بوصفه كارثة وطنيّة جامعة. إنّ مثيل هذه السرديّات يهدّد التضامن الوطنيّ، ويقوّض المواطنة المشتركة، ويهشّم أسس الوحدة الوطنيّة.
في الحقيقة، تُمثّل إعادة الإعمار السياديّة ردًّا صريحًا على هذه السرديّات والانقسامات. فقد وقعت جهود الإعمار في تاريخ لبنان الحديث، مرارًا، في فخّ الطائفيّة والمصالح الأوليغارشيّة، حيث استغلّ الزعماء المحلِّيّون والنخب السياسيّة الفرصة لمراكمة النفوذ داخل مجتمعاتهم من خلال احتكار مبادرات التعافي ضمن مناطقهم وشبكاتهم الخاصّة. والحقيقة أنّ إعادة الإعمار السياديّة ترفض هذا المنطق المُجزّأ، مؤكّدةً أنّ ما جرى في الجنوب هو نكبة وطنيّة تستوجب مسؤوليّة وطنيّة جماعيّة وليس إحسانًا مشروطًا ولا تضامنًا انتقائيًّا. ويضمن هذا التوجّه ألّا تُترك أيّ منطقة لتواجه آثار الحرب بمفردها، نتيجة اعتبارات طائفيّة أو اصطفافات سياسيّة.
علاوةً على ذلك، تُمثّل إعادة الإعمار السياديّة ضرورة حاسمة لأنّها تمنح الدولة اللبنانيّة القدرة الفعليّة على مقاومة ثلاثة أشكال رئيسة من محاولات الاستيلاء على القرار الوطنيّ وإجهاضها. أوّلًا، تَحول إعادة الإعمار السياديّة دون فرض شروط سياسيّة يمليها المانحون والجهات الخارجيّة. فكثيرًا ما تأتي المساعدات الدوليّة محمّلة بأجندات سياسيّة، أو بمطالب أمنيّة، أو بشروط اقتصاديّة مقيّدة. ومن دون إشراف سياديّ فعليّ، يُمكن لهذه الجهات أن تستغلّ هشاشة لبنان وتبعيّته، فتحوّل سبل عيش الناس إلى ورقة ضغط لانتزاع تنازلات سياسيّة. وبمعنى آخر، قد تتحوّل مساعدات الإعمار إلى آليّة يُملي عبرها المانحون أولويّات لبنان السياسيّة والاقتصاديّة، ما يُقوّض استقلاله الوطنيّ. أمّا إعادة الإعمار السياديّة، فتُعيد تمركز المصلحة اللبنانيّة في قلب العمليّة، وتضمن أن تكون أولويّات التعافي متجذّرة في أهداف وطنيّة واضحة، لا في إملاءات خارجيّة.
ثانيًا، تعمل إعادة الإعمار السياديّة على منع القوى السياسيّة المحلّيّة من الاستيلاء على العمليّة لأغراض سلطويّة. ففي ظلّ غياب قيادة دولة حازمة، يُمكن أن تتحوّل جهود إعادة الإعمار إلى وسيلة بيد الزعماء الطائفيّين والنافذين المحلّيّين لتثبيت نفوذهم، ومكافأة مناصريهم، وتوسيع شبكات الزبائنيّة. في المقابل، تضمن السيادة حوكمة شفّافة، ومحاسبة واضحة، وآليّات مؤسّسيّة تحمي عمليّة إعادة الإعمار من التوظيف السياسيّ، وتُبقيها جهدًا وطنيًّا فعليًّا.
ثالثًا، تحمي إعادة الإعمار السياديّة من استيلاء المصالح الرأسماليّة على نتائج ما بعد الحرب. ففي كثير من الحالات، يجذب الإعمار رؤوس أموال خاصّة تسعى إلى استغلال هشاشة الأوضاع الناتجة من الحرب، من خلال شراء الأراضي بأسعار بخسة، وتهجير المجتمعات المحلِّيَّة، وإعادة تشكيل الاقتصاد المحلِّيّ بما يخدم الربح الخاصّ بدلًا من المنفعة العامّة. يتيح الإشراف السياديّ ما يلزم من أدوات تنظيميّة، وشفافية في إدارة الأراضي، وآليّات لحماية المجتمعات المحلِّيّة، ما يضمن خدمة عوائد الإعمار الصالح العامّ لا جيوب المستثمرين.
وباختصار، تعني السيادة: امتلاك القرار في جدول أولويّات الإعمار، والقيادة في التنفيذ، والقدرة على مواجهة جميع أشكال المصادرة والاستغلال. وعلى الدولة اللبنانيّة أن تغتنم هذه اللحظة الحاسمة بحسم، لتُعيد تثبيت مفهوم الوطن في وجه الانقسامات الطائفيّة، وتستعيد الجنوب بوصفه جزءًا محوريًّا لا يتجزّأ من النسيج الوطنيّ، وتُكرّس المبدأ القائل إنّ بقاء لبنان بمعناه الحقيقيّ مشروط بتقاسم الأعباء وتقاسم المستقبل. وهكذا، تمثّل إعادة الإعمار السياديّة دفاعًا عن جوهريّة فكرة الدولة اللبنانيّة ذاتها.
أربعة أركان لإعادة الإعمار السياديّة
تتطلّب إعادة الإعمار السياديّة إعادة ترتيب واعية لأولويّات لبنان السياسيّة، وتنظيماته المؤسّسيّة، وآليّات التنفيذ. وينبغي النظر إلى عمليّة الإعمار بوصفها مشروعًا سياسيًّا ولوجستيًّا في آنٍ معًا، يقوم على الاعتراف بأنّ إعادة بناء المناطق المنكوبة، ولا سيّما الجنوب، تستدعي تعزيز قدرات الدولة، وتمكين المجتمعات المحلِّيَّة، وترسيخ العدالة الوطنيّة بين المواطنين، وتعزيز وحدة الأراضي اللبنانيّة.
تتمثّل الخطوة الأولى في إنشاء هيكليّة مؤسّسيّة وطنيّة واضحة المعالم، تتولّى فيها الدولة المسؤوليّة المركزيّة في رسم الرؤية وتوجيه مسار التعافي. وينبغي أن تضمن هذه البنية المؤسّسيّة أن تكون أدوار الجهات المانحة، والفاعلين في القطاع الخاصّ، والجهات السياسيّة الطائفيّة، والمنظّمات غير الربحيّة، أدوارًا مكمّلة لدور الدولة، لا بديلة منه أو مفتِّتة له. وبدلًا من إنشاء مؤسّسات جديدة، يُستحسن أن تعمل الدولة على بناء إطار مؤسّسيّ يستثمر في الهيئات القائمة، مثل مجلس الإنماء والإعمار، والمديريّة العامّة للتنظيم المدنيّ، والبلديّات، مع إصلاح وظائفها وصلاحياتها، وتنسيق أعمالها، وبناء قدراتها، وإخضاعها لرقابة صارمة من البرلمان ومن الهيئات الرقابيّة المستقلّة، وذلك لتفادي الاستيلاء السياسيّ، والفساد، والتوظيف الزبائنيّ. وفي هذا السياق، يُمكن للبنان أن يستفيد من الدور الفاعل للمراكز البحثيّة والجامعات، التي أبدت خلال العقود الماضية استعدادًا حقيقيًّا للاضطلاع بهذا الدور.
إلى جانب ذلك، من الضروريّ الإسراع في بلورة إطار تنظيميّ يحدّد بوضوح آليّات الإعمار، ويُرسّخ الأساس القانونيّ لعمليّة إعادة البناء. ينبغي أن يُركّز هذا الإطار على تيسير عمليّة إعادة الإعمار أمام المواطنين، مع ضمان العدالة والمساواة، وحماية التراث العمرانيّ والثقافيّ، والنظم البيئيّة التي تُعدّ أساسيّة لتعافي المجتمعات على المدى الطويل. ولدى لبنان رصيد واسع من الدراسات والخبرات الفنِّيّة التي بقيت مجمّدة نتيجة الشلل السياسيّ؛ لذا، من الضروريّ اليوم تعبئة هذه الموارد وتفعيلها، وإعادة تأهيل مؤسّسات الدولة للقيام بهذا الدور.
أمّا الركيزة الثانية فتتمثّل في تعبئة الموارد الداخليّة المحلِّيّة بوصفها حجر الأساس في عمليّة الإعمار، قبل الانخراط الواسع في طلب المساعدات الخارجيّة. صحيح أنّ الأزمة الماليّة الحادّة التي يمرّ بها لبنان تُقيّد قدرته الماليّة، إلّا أنّه ينبغي تفادي الاعتماد الكلِّيّ على التمويل الخارجيّ. وقد أثبتت التجارب اللبنانيّة السابقة أنّ مبادرات الإعمار الوطنيّة المموّلة محلِّيًّا ممكنة وفعّالة؛ فعلى سبيل المثال، عقب زلزال عام 1956، أقرّ لبنان "ضريبة التضامن الوطنيّ"، وجمِعَت موارد محلِّيّة خصَّصها لجهود إعادة الإعمار. ومن الممكن اليوم ابتكار آليّات مشابهة – مثال فرض ضرائب موجَّهة، أو إصدار سندات إعمار – تُجسّد الاعتماد على الذات، وتُكرّس مفهوم السيادة الوطنيّة.
تُظهر التجارب الدوليّة كيفيّة تمكُّن الدول التي تعاني من قيود اقتصاديّة قاسية من إعطاء الأولويّة لتعبئة الموارد المحلِّيّة في عمليّات إعادة الإعمار. فقد اعتمدت رواندا، التي خرجت من إبادة جماعيّة وفقر مدقع، على العمل المجتمعيّ وإستراتيجيّات التخطيط الوطنيّ للحدّ من التبعيّة للمانحين. وركّزت كوريا الجنوبيّة، بعد خروجها من الحرب، على الاستثمار العامّ، وأعادت توجيه رؤوس الأموال المحلِّيَّة نحو البنى التحتيّة الوطنيّة. أمّا تشيلي فقد تمكّنت، بعد زلزال عام 2010 المدمّر، من تمويل إعادة الإعمار من خلال فرض ضرائب مؤقّتة على أرباح الشركات. تقدّم هذه النماذج عمليّات قابلة للاقتباس في السياق اللبنانيّ. ففي فيتنام، عقبَ عقود من الحروب الّتي انتهت عام 1975، أولت الدولة الأولويّة لتعبئة الموارد الوطنيّة، ونظّمت جهود العمل الجماعيّ، وأجرت إصلاحات زراعيّة، وأجرت استثمارات عامّة إستراتيجيّة. وبالرغم من العزلة الدوليّة والقيود الاقتصاديّة القاسية، اعتمدت فيتنام بالدرجة الأولى على قدراتها الداخليّة وإمكاناتها المحلِّيَّة.
أمّا الركيزة الثالثة فتتمثّل في ضرورة الاستفادة من رأس المال البشريّ اللبنانيّ المحلِّيّ ومن الخبرات الوطنيّة. لقد طال التهميش، تاريخيًّا، الكفاءات اللبنانيّة، من مهندسين، ومخطّطي مدن، ومهندسين معماريّين، وخبراء بيئة، وإداريّين، ومتعهّدين، ضمن نماذج إعادة الإعمار الّتي يموّلها الخارج، أو يقودها. وقد بات ضروريًّا أن تقلب إعادة الإعمار السياديّة هذا الواقع رأسًا على عقب، من خلال إعطاء أولويّة واضحة لتوظيف الكفاءات المحلِّيَّة، ودمج الجامعات والنقابات المهنيّة والمعاهد التقنيّة والشركات الوطنيّة في مختلف مراحل العمليّة – من التخطيط حتّى التنفيذ. من شأن هذا التوجّه أن يخلق فرص عمل داخل البلاد، ويحدّ من نزيف الكفاءات، ويُكرّس رؤية للإعمار تعبّر عن تطلّعات اللبنانيّين وقدراتهم، لا عن تصوّرات يفرضها مستشارون وشركات أجنبيّة.
أمّا الركيزة الرابعة والأخيرة، فتُسلّط الضوء على أهمِّيَّة إشراك المجتمعات المحلِّيَّة إشراكًا فعليًّا، إذ لا بدّ من أن تتبنّى عمليّة إعادة الإعمار نهجًا ينطلق من الناس، وليس نهجًا هابطًا تقوده المصالح الربحيّة. وينبغي للبلديّات، والتعاونيّات، ومنظّمات المجتمع المدنيّ – بخاصّةٍ في المناطق المهمّشة تاريخيًّا، مثل الجنوب – أن تُشارك بفعاليّة في تحديد الحاجات المحلِّيَّة، ووضع الأولويّات، ومراقبة التنفيذ. فلا شكّ في أنّ إدماج المجتمعات في عمليّة التخطيط يعزّز قدرتها على تشكيل تعافٍ يتماشى مع احتياجاتها، ويُكرّس في الوقت نفسه العدالة والمساءلة، ويحول دون تحوّل جهود إعادة الإعمار إلى أدوات للزبائنيّة السياسيّة أو المحسوبيّات.
في النهاية، تُسهم هذه المرتكزات في تحويل الإعمار من مجرّد عمليّة إصلاحٍ للبنى التحتيّة إلى مشروعٍ يرسم ملامح مستقبل بديل. تصير إعادة الإعمار السياديّة مشروعًا لاستعادة الثقة العامّة، وإرساء العدالة، وتكريس شرعيّة الدولة اللبنانيّة بوصفها الضامن للمجال الوطنيّ المشترك. ولا يمكن لهذا الهدف الأوسع – المتمثّل في النهوض الوطنيّ الحقيقيّ – أن يتحقّق إلّا تحت قيادة فعليّة للدولة.
الخاتمة
يمثّل الدمار الّذي لحق بجنوب لبنان فرصة حاسمة أمام الدولة اللبنانيّة لاستعادة شرعيّتها. ينبغي لإعادة الإعمار أن تتجاوز عمليّة ترميم البُنى التحتيّة المادِّيّة؛ ذلك أنّها مُطالَبة بإعادة تشكيل جذريّة لطريقة عمل الدولة، وللجهة التي تعمل لها، ولطبيعة رؤية عملها. لا تُستعاد الشرعيّة من خلال الانتشار العسكريّ، أو عبر احتكار القوّة، أو الاكتفاء بالإجراءات الرمزيّة، إنّما تنبثق من منح المجتمعات القدرة على إعادة بناء بلداتها، ومن استعادة الخدمات العامّة وصونها بوصفها حقوقًا لا منّة، وكذلك من تحويل عمليّة إعادة الإعمار إلى تجسيد مرئيّ للعدالة الوطنيّة والشمول.
وهكذا، تفتح إعادة الإعمار السياديّة أمام لبنان مسارًا لتجديد العقد الاجتماعيّ واستعادة اللحمة الوطنيّة. إنّها فرصة لإعادة بناء ما دمّرته الحرب، وما قوّضه الإهمال طوال العقود الماضية: الإيمان بأنّ لبنان وطن لجميع مواطنيه بالتساوي، وأنّ الدولة قادرة على خدمتهم. في هذا السياق، لا تعود السيادة مفهومًا مجرّدًا، بل تمسي ممارسةً عمليّة، عاجلة، وواضحة، وحاسمة.
From the same author
view all-
02.05.25eng
أزمة لبنان بنيوية، لا وزارية
سامي زغيب, سامي عطاالله -
10.15.24eng
لا عدالة مناخية في خضمّ الحروب
منى خشن, سامي عطاالله -
06.14.24
عطاالله: التدّخل السياسي عقبة أمام تطوّر الإدارة العامة
سامي عطااللهمقابلة مع مدير مبادرة سياسات الغد الدكتور سامي عطاالله أكد أن "التدخل السياسي هو العقبة الرئيسية أمام تطور الإدارة العامة"، وشدد على أن دور الدولة ووجودها ضروريان جدًا لأن لا وجود للاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق من دونها"
اقرأ -
09.21.23
مشروع موازنة 2023: ضرائب تصيب الفقراء وتعفي الاثرياء
وسيم مكتبي, جورجيا داغر, سامي زغيب, سامي عطاالله -
10.12.22eng
فساد في موازنة لبنان
سامي عطاالله, سامي زغيب
More periodicals
view all-
04.24.25
اقتراح قانون إنشاء مناطق اقتصادية تكنولوجية: تكنولوجيا للبيع في جزر نيوليبرالية
المفكرة القانونية, مبادرة سياسات الغدتهدف هذه المسوّدة إلى تحقيق النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل، غير أنّ تصميمها يصبّ في مصلحة قلّة من المستثمرين العاملين ضمن جيوب مغلقة، يستفيدون من إعفاءات ضريبية وكلفة أجور ومنافع أدنى للعاملين. وبالنتيجة، تُنشئ هذه الصيغة مساراً ريعيّاً فاسداً يُلحق ضرراً بإيرادات الدولة وبحقوق الموظفين وبالتخطيط الإقليمي (تجزئة المناطق). والأسوأ أنّ واضعي السياسات لا يُبدون أيّ اهتمام بتقييم أداء هذه الشركات أو مراقبته للتحقّق من تحقيق الغاية المرجوّة من المنطقة الاقتصاديّة.
اقرأ -
02.05.25eng
أزمة لبنان بنيوية، لا وزارية
سامي زغيب, سامي عطاالله -
10.15.24eng
لا عدالة مناخية في خضمّ الحروب
منى خشن, سامي عطاالله -
06.14.24
عطاالله: التدّخل السياسي عقبة أمام تطوّر الإدارة العامة
سامي عطااللهمقابلة مع مدير مبادرة سياسات الغد الدكتور سامي عطاالله أكد أن "التدخل السياسي هو العقبة الرئيسية أمام تطور الإدارة العامة"، وشدد على أن دور الدولة ووجودها ضروريان جدًا لأن لا وجود للاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق من دونها"
اقرأ -
10.27.23eng
تضامناً مع العدالة وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني
-
09.21.23
مشروع موازنة 2023: ضرائب تصيب الفقراء وتعفي الاثرياء
وسيم مكتبي, جورجيا داغر, سامي زغيب, سامي عطاالله -
09.09.23
بيان بشأن المادة 26 من مشروع قانون الموازنة العامة :2023
المادة ٢٦ من مشروع موازنات عام ٢٠١٣ التي اقرها مجلس الوزراء تشكل إعفاء لأصحاب الثروات الموجودة في الخارج من الضريبة النتيجة عن الأرباح والايرادات المتأتية منها تجاه الدولة اللبنانية. بينما يستمرون في الإقامة بشكل رسمي في لبنان ويتجنبون تكليفهم بالضرائب بالخارج بسبب هذه الإقامة. كما تضمنت المادة نفسها عفواً عاماً لهؤلاء من التهرب الضريبي. وكان مجلس الوزراء قد عمد إلى تعديل المادة 26 من المشروع ال مذكور، فيما كانت وزارة المالية تشددت على العكس من ذلك تماماً في تذكير بالمترتبات والنتائج القانونية والمالية الخطرة لأي تقاعس أو إخلال في تنفيذ الموجبات الضريبية ومنها الملاحقات الجزائية والحجز عىل الممتلكات و الاموال. واللافت أن هذا الإعفاء الذي يشمل ضرائب طائلة يأتي في الفترة التي الدولة هي بأمس الحاجة فيها إلى تأمين موارد تمكنها من إعادة سير مرافقها العامة ومواجهة الأزمة المالية والإقتصادية.
-
08.24.23
من أجل تحقيق موحد ومركزي في ملف التدقيق الجنائي
في بيان مشترك مع المفكرة القانونية، مبادرة سياسات الغد، كلنا إرادة، وALDIC، نسلط الضوء على التقرير التمهيدي الذي أصدره Alvarez & Marsal حول ممارسات مصرف لبنان وأهميته كخطوة حاسمة نحو تعزيز الشفافية. ويكشف هذا التقرير عن غياب الحوكمة الرشيدة، وقضايا محاسبية، وخسائر كبيرة. إن المطلوب اليوم هو الضغط من أجل إجراء تدقيق جاد وموحد ومركزي ونشر التقرير رسمياً وبشكل كامل.
اقرأ -
07.27.23
المشكلة وقعت في التعثّر غير المنظّم تعليق دفع سندات اليوروبوندز كان صائباً 100%
-
05.17.23
حشيشة" ماكينزي للنهوض باقتصاد لبنان
-
01.12.23
وينن؟ أين اختفت شعارات المصارف؟
-
10.12.22eng
فساد في موازنة لبنان
سامي عطاالله, سامي زغيب -
06.08.22eng
تطويق الأراضي في أعقاب أزمات لبنان المتعددة
منى خشن -
05.11.22eng
هل للانتخابات في لبنان أهمية؟
كريستيانا باريرا -
05.06.22eng
الانتخابات النيابية: المنافسة تحجب المصالح المشتركة