The Policy Initiative

  • eng
    • share
  • subscribe to our mailing list
    By subscribing to our mailing list you will be kept in the know of all our projects, activities and resources
    Thank you for subscribing to our mailing list.
05.03.25

لا تكتسب الانتخابات معنًى ما لَمْ تشهد البلديّات تحوُّلًا بنيويًّا جذريًّا

سامي زغيب,
سامي عطاالله,
رنا هبر,
منى حرب

من المقرّر إجراء الانتخابات البلدية في لبنان في أيّار 2025، بعد تأجيل دام تسع سنوات، ويجري الترويج لها على أنّها عودةٌ إلى الديمقراطية القاعدية. على الصعيد النظري، تمتلك المجالس المحلِّية صلاحية التصرُّف في شؤون حيوية تمسّ حياة السكّان اليومية، كإضاءة الشوارع، وترميم المدارس، وجمع النفايات، وإدارة الأملاك العامّة. وقد منحها قانون البلديّات الصادر عام 1977 الحقّ في استيفاء الرسوم مباشرةً، وتلقّي التحويلات المالية من مؤسّسات الدولة. غير أنّ هذه الصلاحيات، تظلّ، على المستوى العملي، مقيّدةً بثلاث عقبات مترابطة: أوّلها الحدود الإدارية المُجزّأة، وثانيها القاعدة الناخبة المنفصلة عن السكّان المقيمين، وثالثها القاعدة المالية المُستنزَفة نتيجة انهيار قيمة الليرة اللبنانية.

في ظلّ هذا الواقع، يجد بعض رؤساء البلديّات أنفسهم عاجزين عن تحقيق نتائج إلّا عبر تجاوز الأنظمة الرسمية، والاعتماد على شبكاتهم الشخصية، وتأمين الدعم من المانحين، وتكييف الأولويّات المحلِّية مع أجندات الجهات المانحة. لكنَّ هذه المساعي، وإن أثمرت أحيانًا، تبقى غير مؤسَّسية، وغالبًا ما تتلاشى بانتهاء التمويل أو تبدُّل القيادة. 

ويذهب هذا المقال إلى تأكيد أنّ الانتخابات البلدية ستظلّ محدودة الأثر في مجال التنمية ما لم تتحقّق إصلاحات بنيويّة عميقة، بخاصّةٍ على مستوى نطاق التقسيم الإداري للبلديات، والاستدامة المالية، والمساءلة. فعلى الرغم من أهمِّيّتها السياسية، يُخشى أن تتحوّل إلى أدوات لتكريس الزبائنية وترسيخ سلطة النخب، بدلًا من أن تكون محرّكًا للتغيير البنيوي المنشود.

القيود البنيوية على الحكم المحلِّي

يعاني النظام البلدي في لبنان من تفتُّت مؤسَّسي، وانحرافاتٍ سياسية، وهشاشة مالية.

أوّلًا، خريطة البلديات في لبنان شديدة التشتُّت؛ إذ ينشط أكثر من ألف مجلس بلدي ضمن مساحة لا تتجاوز 10,452 كلم²، فيما يخدم أكثر من 70% منها أقلّ من 4,000 ناخب مُسجَّل. وتُعاني المجالس الصغيرة الحجم من أوعية ضريبية محدودة لا تولّد قدراً كافياً من الإيرادات، مما يؤدي إلى صعوباتٍ في توظيف الكوادر المهنية، والتفاوض على عقود تقديم الخدمات، أو الوصول إلى تمويلٍ استثماري فعّال. ويؤدّي هذا التفتُّت إلى تقويض وفورات الحجم، ويحدّ من القدرات التخطيطية على المستوى المحلِّي.

ثانيًا، يُقوّض التفاوت بين عدد الناخبين المُسجَّلين وعدد المقيمين الفعليّين مبدأ المساءلة المحليّة؛ ففي نحو 80% من البلديّات، يُقيم أغلب الناخبين خارج نطاقها الجغرافيّ. ونتيجةً لذلك، غالبًا ما يستجيب المسؤولون المُنتخَبون لتطلّعات قوى ناخبة غائبة، تعكس تفضيلات سُكّانٍ يقطنون خارج نطاق خدمتهم، بدلًا من تلبية احتياجات المُقيمين الذين يستخدمون الخدمات اليومية. يُضعف هذا الاختلال العلاقة الديمقراطية المُفترَضة بين التمثيل وتقديم الخدمات.

ثالثًا، تعاني الميزانيات البلدية من ضعف هيكلي؛ إذ تعتمد إيرادات البلديّات اعتماداً رئيسياً على ثلاثة رسوم متقادمة: ضريبة القيمة التأجيرية، ورسوم الأرصفة والصرف الصحِّي، ورخص البناء. أمّا التحويلات المالية من "الصندوق البلدي المستقلّ"، فترتبط بعدد الناخبين المسجَّلين والقاعدة الضريبية المحلِّية، وهو ما يعزِّز موقع البلديّات الحضرية الغنيّة بالعقارات، ويكون مجحفاً بحق المناطق الفقيرة أو الأقلّ عمرانًا. ومنذ انهيار الليرة، لم تُعدَّل الرسوم المحلِّية ولا التحويلات المركزيّة بما يتلاءم مع معدّلات التضخُّم، ما ترك البلديّات أمام ميزانيّاتٍ مُتآكلةٍ ومسؤوليّاتٍ مُتنامِية.

التكيُّف عبر المبادرات الفردية في العمل البلدي: حوكمة محلِّية مُرتجلة

لقد وضعت الأزمة المالية المستمرّة في لبنان مستويات الحُكم كافّة تحت اختباراتٍ قاسية، غير أنّ آثارها كانت أشدّ وقعًا على المستوى المحلِّي. فمع تهاوي المؤسّسات المركزية، لجأ العديد من المواطنين إلى بلديّاتهم لسدّ الفراغ في الخدمات الأساسية، من كهرباء ومياه، إلى الصرف الصحِّي والبُنى التحتية المحدودة. إلّا أنّ البلديّات، في ظلّ شحّ الموارد الحادّ وتفكّك المؤسّسات، وجدت نفسها عاجزة عن الاستجابة من خلال القنوات الرسمية. وبدلًا من ذلك، نشأ نمطٌ من الصمود قائمٌ على التدبير الارتجاليّ وروح ريادة الأعمال.

وسعيًا إلى فهم كيفيّة تعامل البلديّات مع هذه المرحلة، أجرت "مبادرة سياسات الغد" بحثًا ميدانيًّا شمل ثلاثين بلدية نجحت في إنجاز مشروعٍ عامٍّ واحدٍ على الأقلّ منذ عام 2019. وقد اختيرت ثماني بلديّات منها للدراسة المعمّقة نظرًا إلى تميُّز مشاريعها وارتباطها الوثيق بالمجتمعات المحلِّية. وتنوّعت هذه المشاريع بين مشروع الفرز وإعادة التدوير في بلدة بتلون، وإعادة تأهيل محطّة لمعالجة مياه الصرف في منجز، وترميم سوق السمك في صيدا، وصيانة حيوية للشوارع في برج حمّود. وقد شكّلت كلٌّ من هذه المشاريع نموذجًا نادرًا في تقديم الخدمات المحلِّية، وسط واقعٍ عامٍّ يتّسم بالشلل.

غير أنّ الدراسة الدقيقة لهذه الحالات كشفت أنّ المشاريع لم تكن نتاجًا لصمود مؤسّسيّ، بل ثمرة تدخّلاتٍ شخصيّةٍ محدّدة، غالبًا ما قام بها رؤساء بلديّات أو أعضاء مجالس يمتلكون القدرة على تفعيل روابط حزبية، أو التفاوض المباشر مع الجهات المانحة الدولية، أو الاستفادة من تحويلات المُغتربين. أمّا المؤسّسات البلدية نفسها، من أقسام تقنيّة وآليّات شراء ووحدات تخطيط، فقد أدّت دورًا هامشيًّا، إن وُجِد أصلًا. ويُحاكي هذا النمط ما يُعرَف في أدبيّات الدُوَل الهشّة بـ"جُزُر الفاعليّة": إنجازاتٌ ضيّقة النطاق تتحقّق عبر تلاقٍ ظرفيّ بين القيادة، والتمويل، والحاجة المُلحّة، من دون أيّ امتدادٍ مؤسَّسيّ أوسع.

ولا يُعَدّ هذا التوجُّه الارتجالي سلبيًّا في حدّ ذاته؛ بل إنّه أتاح لبعض المجتمعات المحلِّية إنجاز بُنى تحتيّة كانت لتبقى بعيدة المنال. غير أنّ هذا النهج ينطوي على حدود جوهرية .أوّلًا، يُنتج هذا النموذج آليّةً لتقديم الخدمات قائمة على الأفراد، يصعُب تكرارها أو تعميمها. فالمشاريع نادرًا ما تُدمَج في خططٍ طويلة الأمد، كما أنّها تفتقر غالبًا إلى الأُطر التنظيمية أو الآليّات المالية الضرورية لضمان استمراريّتها. وبمُجرّد انقضاء التمويل أو مغادرة رئيس البلدية، ينهار المشروع تدريجيًّا.

ثانيًا، باتت ديناميّات المبادرات الفردية في العمل البلدي خاضعةً، على نحوٍ متزايد، لأولويّات الجهات المانحة الخارجية بدلًا من إستراتيجيّات التنمية المحلِّية. فمع الحاجة المُلِحَّة إلى التمويل، تعمد البلديّات إلى إعادة هندسة اقتراحاتها لتتناسب مع ما تدعمه الجهات المانحة في اللحظة الراهنة: الألواح الشمسية، فرز النفايات، الرقمنة. وبالرغم من أنّ هذه العناوين ليست إشكاليّة بذاتها، فقد تُشوّه الأولويّات المحليّة، وتحرف الأنظار عن حاجاتٍ أكثر إلحاحًا وأقلّ جاذبيّة للتمويل، كالبُنى التحتيّة المائية، أو شبكات الصرف، أو تأهيل الكادر الإداري. والنتيجة: فسيفساء من التدخُّلات المتقطِّعة، تُحرِّكها  أجندات التمويل الخارجيّ أكثر من المشاورات المجتمعية أو التخطيط الاستثماري.

ثالثًا، غالبًا ما تُرفَق المِنَح الدولية بآليّاتٍ إصلاحيّة، كالموازنات التشاركية ومنصّات الشفافية وإجراءات التدقيق، لكنّها تُطبَّق شكليًّا ولا تُستدام عمليًّا. ويُقِرّ مسؤولو البلديّات، بصراحة، بأنّ هذه الآليّات نادرًا ما تُصان بعد انتهاء المشروع؛ فالمواقع الإلكترونية لا تُحدَّث، واللجان المجتمعية تتوقّف عن العمل، وميزانيّات الصيانة تمسي غير مُمَوَّلة أو مُهمَلة. ويبقى من المشروع بُنيته المادّيّة، لا دعائمه المؤسّسية اللازمة لاستمراريّته.

وأخيرًا، أدّى التنافس على المِنَح الدولية إلى نشوء توتّراتٍ جديدة بين البلديّات؛ فمع محدوديّة الموارد، باتت المجالس تتنافس بدلًا من أن تتعاون، وصولًا إلى حدّ تقويض جهود بعضها بعضًا للحصول على التمويل. وفي بعض الحالات، أدّى ذلك إلى تقديم اقتراحات متداخلة أو متناقضة، ما أضعف فرص الاستفادة من وفورات الحجم، وأضرّ بإمكانات التعاون فيما بين البلديّات. والنتيجة: مشهد حوكمة محلِّية مُجزّأ، تُرك فيه كلّ مجلسٍ ليواجه أزماته منفردًا.

تُجسّد هذه الديناميّات ظاهرة أوسع نطاقًا، تُعرَف باسم "المحلِّية النيوليبرالية" في لبنان. ففي هذا النموذج، تُصوَّر البلدية على أنها الفاعل الأوّل في تقديم الخدمات والابتكار، في حين تُحجَب عنها الموارد، والصلاحيات، والركائز المؤسَّسية اللازمة لتأدية هذا الدور. وتُشيد الجهات المركزية والدولية بالمبادرات المحلِّية وتمكين المجتمعات، من دون التصدّي للثغرات البنيوية التي تُعيق تحقيق تنمية محلِّية حقيقية. وهكذا، يُنقَل عبء إدارة الأزمة إلى البلديّات، من دون تزويدها بالوسائل الكفيلة بمعالجتها.

في هذا الإطار، تُصبح المبادرات الفردية في العمل البلدي في الوقت نفسه آليّةً للتكيّف ومصيدةً بنيوية. فهي تُمكِّن البلديّات من اجتياز انهيار الدولة، لكنّها تُكرِّس تبعيّتها للمساعدات الخارجية القصيرة الأجل. تُغلق فجوات الخدمات في اللحظة الراهنة، لكنّها تُقوِّض إمكانية بناء منظومةٍ للحُكم المحلِّيّ قائمةٍ على الاستدامة، والمساءلة، والعدالة. ومن دون إصلاحاتٍ جذرية في تمويل البلديّات، وكوادرها، وقدراتها التخطيطية، ستظلّ هذه المبادرات الفردية، مهما حسُنت النيّات، هشّة ومُجزّأة وعُرضةً للزوال.

الانتخابات مقياس سياسي لا تفويض تنموي

من المُقرّر أن تُجرى الانتخابات البلدية لعام 2025 على أربع مراحل: جبل لبنان في 4 أيّار، الشمال وعكّار في 11 أيّار، بيروت والبقاع وبعلبك-الهرمل في 18 أيّار، ثمّ الجنوب والنبطيّة في 25 أيّار. وقد حوّل هذا الجدول الزمني المُجزّأ الانتخابات إلى اختبارٍ حسّاس للقوى السياسية، قُبَيل الاستحقاق النيابي المُرتقَب في عام 2026.

ولأنّ الانتخابات البلدية لا تخضع لنظام المُحاصصة الطائفية المُعتمد في الانتخابات النيابية، تُركَّب اللوائح الانتخابية من خلال مفاوضات غير رسمية بين الأحزاب السياسية، والوجهاء المحلِّيّين، والفاعلين الاقتصاديّين. ويكاد يغيب الحديث عن البرامج التنموية في النقاش العامّ. فالغلبة هي لمنطق النفوذ: حشد الأصوات، والسيطرة على المقاعد، وتأمين موطئ قدمٍ يُتيح لاحقًا الوصول إلى الموازنات، والعقود، وتدفّق التمويل من الجهات المانحة.

وبات المراقبون يصفون الانتخابات البلدية، على نحوٍ متزايد، بأنّها "بروفة" انتخابيّة تمهيديّة للمعركة النيابية، أي آليّة لقياس قوّة الأحزاب وتنظيمها، ومدى امتدادها الجغرافيّ. وبهذا المعنى، فإنّ الانتخابات تُعَدّ مهمّة من منظورٍ سياسي، لكنّها لا تُغيّر فعليًّا من الأسُس المادِّية للحُكم المحلِّي.

ما المطلوب كي تُصبِح الانتخابات ذات جدوى؟

لقد بيّنت تجارب بعض البلديّات، منذ عام 2019، أنّ الحُكم المحلِّي لا يزال قادرًا على الفعل، لكن ضمن شروطٍ استثنائية وغير قابلة للاستدامة. فالمشاريع التي جرى تنفيذها في خضمّ الأزمات لم تكن نتيجة تصميمٍ مؤسَّسيّ فعّال، بل ثمرة مبادراتٍ فرديّة، وتمويلٍ ظرفيّ، وحلولٍ ارتجاليّة.

أمّا الإصلاح الحقيقيّ، فيتطلّب ما هو أعمق من مجرّد إجراء الانتخابات. إنّه يقتضي إعادة النظر في البُنية البلدية اللبنانية برمّتها: إعادة ترسيم الصلاحيّات الإدارية لتعزيز الكفاءة والقدرة، ومواءمة الخرائط الانتخابية مع توزُّع السُكّان المُقيمين، وإصلاح النموذج المالي لضمان إيرادات مستقرّة ومُعدَّلة حسب التضخُّم. كما يتطلّب ترسيخ مبادئ الشفافية، والمُشاركة، والمساءلة ضمن العمل البلديّ اليوميّ، لا تكون ناتجة من اشتراطاتٍ خارجيّة مُرتبطة بالتمويل، بل بوصفها أساسًا للحوكمة.

ومن دون هذه التحوّلات، ستبقى الانتخابات البلدية أداةً للمنافسة السياسية، لا منبرًا للتنمية المحلِّية. وستظلّ المجالس البلدية مكبّلةً بالعوائق البنيوية نفسها التي لطالما أعاقت دورها، وسيبقى الحُكم المحلِّي رهينةً لهشاشة الحلول الظرفية والمرهونة بالأفراد.

 


From the same author

view all

More periodicals

view all
Search
Back to top