The Policy Initiative

  • eng
    • share
  • subscribe to our mailing list
    By subscribing to our mailing list you will be kept in the know of all our projects, activities and resources
    Thank you for subscribing to our mailing list.
06.08.22

تطويق الأراضي في أعقاب أزمات لبنان المتعددة

منى خشن

شهد العامان الماضيان طرح العديد من الخطط التي تعوّل على أصول الدولة، بما يشمل أراضيها، وكأنها الحلّ الناجع لانهيار لبنان الاقتصادي والمالي. فقد اقترحت جمعية مصارف لبنان، وبذريعة تمكين مصرف لبنان من سداد ديونه للمصارف التجارية، إنشاء صندوق حكومي لتخفيف الديون تسهم فيه الدولة عبر أصولها، ويعطي المصارف التجارية أفضلية فيه. ودعا وزير البيئة السابق محمد المشنوق إلى بيع 10% من أراضي الدولة لأصحاب الودائع في المصارف، وإلى إنشاء صندوق سيادي يديره مجلس وطني خاص. كذلك سعت حكومة رئيس الوزراء السابق حسان دياب إلى إنشاء شركة لإدارة الأصول العامة للدولة وتولي إعادة هيكلتها والإشراف عليها، وأقرّت حكومة نجيب ميقاتي أخيراً، خطة مماثلة. وعلى النسق نفسه، اقترح بعض المحلّلين إنشاء صندوق ثروة سيادي وطني مستقل لامتلاك وإدارة الأصول العامة بما يصب في منفعة المجتمع.

في ظل الإفلاس الفعلي للدولة اللبنانية ولمصرف لبنان، فإن هذه الطروحات تُثير مخاوف مشروعة حيال مستقبل الأراضي العامة والمشاعات. والأخطر أن أياً من الخطط المطروحة لم تتطرّق إلى حقوق الحيازة الحالية لأراضي الدولة، ولا إلى كيفية حماية هذه الحقوق من برامج مصادرة الأراضي. كما لم يأتِ أي طرح على ذكر الدور (المحتمل) للحكومات المحلية في إدارة الثروة العامة المحلية، والتي تشكل الأراضي أحد مكوناتها الرئيسية.

إعادة صياغة النقاش

لفهم السياسات المتعلقة بالأراضي في سياقها العام ومواجهة الأشكال الجديدة لتطويق الأراضي في لبنان، هناك ضرورة لمعرفة مواقع أراضي الدولة وكيفية إدارتها والأطراف التي يحق لها الاستفادة منها. كذلك، هناك ضرورة لمعرفة الإمكانات الإنمائية والاستخدامات المتصوَّرة لهذه الأراضي والطرق التي يمكن من خلالها تسوية الادعاءات المتضاربة بشأن ملكيتها أو الأحقيّة بها.

يُستخدم اليوم، مصطلح «تطويق الأراضي» على نطاق واسع لوصف الاستيلاء القانوني على الأراضي العامة والمشاعات من قبل شركات عابرة للحدود و/أو مجموعات محلية نافذة. وتُعدّ العمليات الحديثة لتطويق الأراضي، وهي وليدة الرأسمالية النيوليبرالية، شكلاً موقوناً من أشكال سرقة الأراضي. وتُغلّب هذه العمليات المصلحة الفردية على المصلحة العامة وتسهم في تسليع المساحات والمجتمع والاقتصاد، وتهدّد بذلك الاستخدامات الراهنة للأراضي التي تتعارض مع المصالح الخاصة للأشخاص الذين يستأثرون بالملكية الفعلية للأرض.

ليست جميع أراضي الدولة شاغرة وغير مُستغَلة، كما أن قيمتها ليست مالية فحسب. ولا يمكن أيضاً جمعها معاً في فئة واحدة. لقد قسّم قانون الأراضي العثماني الأراضي اللبنانية، باستثناء المساحات الواقعة داخل حدود ما كان يُعرف تاريخياً باسم «متصرفية جبل لبنان»، إلى خمسة فئات (المُلك، الأراضي الأميرية، والموات، والخالية المباحة، والخالية المحمية). وتعتبر أنواع الأراضي الأربعة الأخيرة، أي باستثناء الأراضي المُلك (ذات الملكية الخاصة)، أراضٍ تخصّ الدولة ويخضع كلٌ منها لشروط مختلفة لجهة استخدامها وتنظيمها والتصرف فيها. وتتفرّع أراضي الدولة، باستثناء الأراضي المملوكة لبعض المؤسسات العامة، إلى فرعين: ملكية الرقَبة (وهي الملكية المجرَّدة) وحق الانتفاع. وتملك الدولة (أو البلديات في بعض الحالات) الأرض بوصفها مالك رقَبة، ولكن الحق في استخدامها وجني الأرباح منها يعود إلى المنتفع - أي الشخص أو المجموعة التي تملك حقّ الانتفاع، والتي يمكن أن تشمل المجتمع بأجمعه.

تطويق الأراضي ليس أمراً جديداً في لبنان؛ فلطالما كان الاستيلاء بطرق قانونية على الأراضي العامة أو المملوكة جماعياً وتسييجها من الممارسات الشائعة. وبالفعل، فقد أتاحت مجموعة من الآليات والأدوات الناظمة والمالية لذوي النفوذ السياسي و/أو الاقتصادي ليمارسوا تسلطهم على المواقع الطبيعية فيحرموا بالتالي المجموعات الأقل نفوذاً من حقّها في الدخول إليها والاستفادة منها. وتُعتبر الأملاك البحرية مثالاً حيّاً على هذه التجاوزات، إذ أباحت قوانين ومراسيم عدّة سيطرة القطاع الخاص عليها لغايات سياحية، وهو ما نسف طابعها العام. وقد تمّ تفسير القوانين التي سُنّت أخيراً من أجل استعادة هذه «الثروة المسروقة» من المخالفين الذي تقاعسوا عن تسديد الرسوم والغرامات المتوجبة إلى الحكومة بطرق ملتوية، إنما بشكل مَنَح المخالفين «إذناً شرعياً لمواصلة انتهاكاتهم».

إنّ خصخصة الأراضي التي تملكها الدولة في لبنان، سواء من خلال عمليات البيع أو الإيجارات والتنازلات الطويلة الأمد، ستساعد القطاع المصرفي والنخب المالية على استعادة سطوتها على القطاع العقاري ودورها المركزي في تسليع الأرض، والسكن، والطبيعة، وهذا ما سيؤدّي إلى نتائج مدمّرة على أفراد المجتمع والأجيال المقبلة كما على البيئة والأرض. من دون شك، سيؤدّي الاستحواذ على أراضي العامة والمشاعات، في ظل غياب السياسات المناسبة لإدارة الأراضي وغياب الخطط لتطويرها، إلى تحوّلات غير مناسبة في استخدام الأراضي وغطاءها النباتي ما يهدّد التنوع البيولوجي وإنتاجية الأرض. بالإضافة إلى ذلك، تؤدّي خصخصة أراضي الدولة إلى إضعاف الحكومات المحلية، الضعيفة أساساً، وحرمانها من أراضٍ هي بأمس الحاجة إليها لإقامة مشاريع ذات منفعة عامة (مثلاً مشاريع الإسكان الميسّر، والمنشآت الرياضية، ومراكز الرعاية الصحية، والأسواق).

حوكمة الأراضي أولاً

تتطلّب التحديات المعقّدة والمتشعّبة التي يواجهها لبنان، نهجاً ذا أسس اجتماعية وبيئية للتفكير بالأرض . على المستوى العالمي هناك تحول مفاهيمي في كيفية تقييم الأراضي. فبسبب التغيّر المناخي، وتدهور الأراضي، وغياب الأمن الغذائي، وتنامي مستويات الفقر واللاعدالة، بدأت النظرة إلى الأرض باعتبارها سلعة، تتبدل إلى نظرة أخرى تقرّ بقيمها العديدة، من اجتماعية وثقافية وبيئية وسياسية، وتؤكد وظيفتها الاجتماعية، وتقرّ بأن الحق في الأرض هو حقّ من حقوق الإنسان. ويبدو أن لبنان هو الأحوَج إلى مثل هذا التبدّل في مفهوم الأرض نظراً إلى الإدارة الضعيفة لأراضيه وعلماً بأن حقوق حيازة الأراضي غير آمنة بالنسبة إلى مجموعات متعدّدة من السكان مثل اللاجئين والمهجّرين، والكثير من النساء.

ينبغي أن يحظى موضوع حوكمة الأراضي بالأولوية في أجندة التنمية الوطنية في لبنان. هذا يشمل القوانين والأنظمة والإجراءات والهياكل المؤسساتية (سواء كانت تشريعية أو عرفية أو دينية أو غير الرسمية) المعنية بصنع وتنفيذ وبفرض القرارات المتعلّقة بالأرض. ورغم كونه موضوعاً معقداً، إلا أن هناك ثلاث مسارات استقصائية يمكن الانطلاق منها لتعزيز حوكمة أراضي الدولة، بشكل مسؤول ومستدام وذات منفعة اجتماعية.

- يتضمّن المسار الأول تحديد مواقع أراضي الدولة وترسيم حدودها ومعرفة وضعها القائم لجهة طريقة حيازتها وكيفية إشغالها والحقوق المرتبطة بها. وتجدر هنا الإشارة إلى أمرين: أولاً، ما زالت 35% من الأراضي اللبنانية غير ممسوحة، ما يؤدّي إلى تعدّيات عليها وخلافات حول حدودها (بما فيها بين البلديات المتجاورة)؛ وثانياً، هناك ترتيبات عرفية وغير رسمية قديمة لحيازة الأرض (وهي في العادة غير موثقة) تتضارب أحياناً مع التشريعات القانونية القائمة.

- يتطلّب المسار الثاني تقييماً لإمكانات تطوير هذه الأراضي قياساً بموقعها الجغرافي وميزاتها الفيزيوغرافية (ومنها: الجيولوجيا، ونوع التربة، والطوبوغرافيا) بهدف توجيه استراتيجيات تخطيطها وإدارتها المستقبلية. في هذا الإطار، ترسم الخطّة الوطنية الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية توجيهاً إرشادياً عاماً رغم حاجتها للتحديث. وهناك حاجة إلى استكمال هذه الخطة الوطنية بدراسات مفصّلة للاستخدامات الأكثر ملاءمة للأرض، كما إلى خطط استراتيجية لتطويرها، على أن يتم وضع وتنفيذ هذه الخطط على مستويات متعدّدة تتراوح من المستوى دون الوطني إلى المستوى المحلي ومستوى الموقع.

- يتضمّن المسار الثالث معاينة الأشكال المجتمعية والتشاركية والتعاونية القائمة والمبتكرة لحيازة الأراضي والتعامل معها على أنّها بدائل واقعية ومحتملة عن الملكية الخاصة. بالتزامن، يتطلب هذا المسار تحديد السياسات والإصلاحات القانونية الملحّة والضرورية لدعم وتشجيع أشكال مختلفة من الشراكة والتعاون في إدارة الأراضي والموارد الطبيعية. وينبغي أن تعترف هذه الإصلاحات بالدور المحوري للحكومات المحلية والسكان في هذا المجال، وأن تمتثل للأطر الدولية الرئيسية المتعلقة بحوكمة الأراضي التي التزم بها لبنان.

الأولوية للأرض

تمّ إطلاق العديد من المبادرات في السنتين الأخيرتين من قبل البلديات والمنظمات المحلية والدولية من أجل تشجيع الأفراد على العودة إلى الأرض ودعمهم في زراعة طعامهم بأنفسهم. أضف إلى أنّ المبادرات التي تركّز على الإدارة المستدامة للأراضي وحماية الإرث الطبيعي للبنان ومساحاته الخارجية البارزة قد لاقت اهتمام أطراف محلية ودعم الجهات المانحة. وتتضمّن الأمثلة جهوداً لاستخدام أراضي الدولة الخالية في المدن من أجل الإنتاج الزراعي و/أو النشاطات الاجتماعية والثقافية. كذلك تتضمن الأمثلة برامج مجتمعية للحفاظ على التنوّع البيولوجي وحمايته من خلال إرساء شبكة من المحميات الطبيعية.

بالفعل، إن الأزمات المتعدّدة التي يرزح لبنان تحت حملها تتطلب استراتيجيات متضافرة تضع الأرض في مركز الاستجابات الطارئة ومركز الخطط التنموية الطويلة الأمد كمسألة ذات أولوية عالية. وفي حال تقاعست الجهات المعنية عن اتخاذ هذه الخطوة قد تصبح أراضي الدولة لقمة سائغة للطامعين.


 

More periodicals

view all
Search
Back to top