The Policy Initiative

  • eng
    • share
  • subscribe to our mailing list
    By subscribing to our mailing list you will be kept in the know of all our projects, activities and resources
    Thank you for subscribing to our mailing list.
05.30.22

ما مدى عُمق حفرة لبنان التي لا قعر لها؟

سامي زغيب,
وسيم مكتبي

يتحدّى لبنان، الغارق في أزمة مالية مستشرية منذ سنوات طويلة، القول المأثور "ليس هناك من حفرةٍ لا قعر لها". وبغض النظر عن مدى تردّي الأوضاع، يمكن للأمور أن تسوء، وفي لبنان ستسوء بدون شك. فلم نشهد في تاريخ الاقتصادات الحديثة على مثل هذا التقهقر الذي يُركع لبنان، هذا البلد الذي تمّ جرّه إلى هاوية لا نهاية لها بفعل الفساد المستشري والجشع والإجرام المالي

وغنيٍ عن البيان أنّ كارثة لبنان التي طال أمدها متعمّدة ومن صنع الإنسان. من المؤكّد أن البنك الدولي ليس بمؤسسة معصومة من الخطأ، ولكن متى كانت المرة الأخيرة التي وصف فيها أزمة داخلية بأنها "متعمّدة"، كما وصف الحال بلبنان؟ 

 تتحمّل الطبقة الحاكمة الفاسدة وأمراء الحرب في لبنان المسؤولية الأكبر عن الأزمة، حيث حوّلوا اقتصاد البلاد إلى بقرة حلوب تغذّي بعض الأفواه الشرهة على حساب الآخرين. على مدى ثلاثة عقود من الزمن، عملت السياسات المالية والنقدية التي تبنتها الحكومات المتعاقبة والبرلمانات والمصرف المركزي على تعزيز بيئة مثالية لاستخراج الأرباح وتراكم الثروات.   ويستند النموذج إلى جذب تدفقات رأس المال من خلال أسعار الفائدة المرتفعة، والسرية المصرفية، والأدوات المالية ذات العائد المرتفع والمحفوفة بالمخاطر، من أجل تمويل الإقطاعيات الطائفية من موازنات الدولة ونشر شعور زائف بالاستقرار النقدي

وأدّى انهيار هذا النموذج المتمثّل بعجز كبير في ميزان المدفوعات وزيادة هشاشة القطاع المالي اللبناني والأمن الإقليمي، إلى اندلاع أزمة انطلقت شرارتها في العام 2019. وعلى الرغم من إهلاك الثروات الخاصة والعامة والتآكل السريع لرأس المال البشري، فشلت الدولة في تنفيذ حزمة من الإصلاحات الحاسمة، واختارت بدلًا من ذلك تدابير مؤقتة لدوافع سياسية. وخير مثال على ذلك هي التدخلات المفرطة للمصرف المركزي في سوق القطع لتحقيق الاستقرار المصطنع لليرة اللبنانية مقابل الدولار الأمريكي على سعر 20 ألف لير ة لبنانية تقريبًا قبل موسم الانتخابات الساخن.   كلّف هذا القرار لبنان حوالي ملياري دولار، أي تقريبًا قيمة المبلغ نفسه للقروض التي قد يقدمها صندوق النقد الدولي،  عندما يصل غودو

وفي طريقة الاستجابة للأزمة، فإنّ المسؤولين المتحكّمين بسياسات الدولة والمستفيدين منها تمكّنوا من الحفاظ على مصالحهم الخاصة. ولم تنتج استجابة الدولة عن قلة كفاءة تقنية، بل عن نوايا سياسية محسوبة. فهي تهدف في المقام الأول إلى "توزيع" الخسائر التي تقترب من المئة مليار دولار من خلال التضخّم وتسديد الودائع بالليرة اللبنانية.   وبسبب توزيع الخسائر وتقاسمها، يتحمّل المودعون الصغار والمتوسطون عبء الأزمة من خلال الخصم القسري (haircut) على ودائعهم بنسبة تصل إلى 80 في المئة، في حين ينجو أولئك الذين استفادوا من العائدات الضخمة. أما المواطنون الذين لا يملكون أي ودائع في المصارف، أي أكثر من نصف السكان، سوف يشهدون على تآكل مداخيلهم بفعل مستويات التضخم المرتفعة 

لقد أدّى التواطؤ بين النخب الحاكمة إلى تخريب ما يعرف الآن باسم خطة "لازار"، أي إطار التعافي المالي الذي تبنته حكومة حسان دياب قبل عامين.   وتمّ الاعتراض بشدّة على هذه الخطة التي قدّمت اقتراحًا بسيطًا ورأسماليًا يتمثّل في الإبقاء على الخسائر الخاصة خاصّة، أي خسائر القطاع المصرفي، عن طريق شطب جزءٍ كبير من الأسهم المصرفية (الرساميل) أي ما يعرف بال"bail in".   دعمت الأحزاب المترسخة في لبنان الجهود الرامية إلى تقويض خطة لازار، فهذه الأحزاب التي واجهت بعضها بعضًا بشراسة في الانتخابات شكليّاً، كانت قد وضعت يدها بيد بعض وتعاونت في لجنة تقصي الحقائق الشهيرة في مجلس النواب لتمزيق الخطة

والآن، وبعد عامين مكلفين للغاية، لم تتحسّن الأمور على الرغم من التطورات السياسية والاقتصادية الأخيرة

لقد أعطت الانتخابات النيابية، مرةً أخرى، الشرعية للطبقة السياسية الفاسدة الحاكمة ومنحت الأكثرية الحقيقية والساحقة لنفس المصالح التي أركعت المجتمع وأوصلته إلى الحضيض. وتمّ الاحتفاء بدخول شخصيات معارضة إلى قبّة البرلمان باعتباره إنجازًا كبيرًا،  لكنّ قوى المُعارَضة بمعظمها فشلت في اقتراح الأجندة الراديكالية التي يحتاجها الظرف الحالي. وبغض النظر عن السردية السائدة، فإن النواب المعارضين للمنظومة الحاكمة ليسوا مجموعة متجانسة. تضمّ المعارضة أشخاصًا من مختلف الميول الأيديولوجية يختلفون حول مواقف سياسية مهمة.   وبالنسبة لمسألة معالجة الأزمة الاقتصادية والمالية، تبنى بعض أعضاء المعارضة الناشئة في البرلمان خطابًا صديقًا للنظام الحاكم، يعكس مواقفها المبهمة أو غير المكتملة فيما يتعلق بتوزيع الخسائر المالية. وبصراحة، فإن التركيبة الحالية للبرلمان لا تفضي إلى ما هو أكثر من إدامة للضيق الاجتماعي والاقتصادي

وفي الوقت نفسه، وافقت حكومة نجيب ميقاتي، ومن سخرية الأمر، على الخطة عينها التي خرّبتها الأحزاب نفسها التي تمثلها قبل عامين. إنّ الخطة الحالية، التي هي ترجمة حرفية لمسودّة رسالة النوايا الذي كان من المقرر أن يتم توجيهه – ولكن لم يتم إرساله أبدًا – إلى مجلس إدارة صندوق النقد الدولي،  تتبنى المبادئ نفسها التي وافقت عليها حكومة دياب. إلّا أنّ هذه المرة، الخسائر والتضحيات أكبر. في الواقع، أهدر المصرف المركزي تقريبًا 20 مليار دولار من احتياطي العملة الأجنبية منذ بداية الأزمة، أي أكثر من ستة أضعاف حجم قرض صندوق النقد الدولي المحتمل، إذ تمّ صرف معظم هذه المبالغ على الدعم التراجعي والحفاظ على قشرة هشّة من الاستقرار النقدي

وبغض النظر عن ثغرات المساءلة وغيرها من نقاط الضعف، تنص الخطة على ضرورة معالجة الخسائر من خلال شطب أسهم البنوك، وإشراك كبار المودعين بالخطة بتغطية الخسائر، وإعادة هيكلة القطاع المالي وإعادة رسملته، ومساهمات طفيفة من الأصول العامة (أقصاها ٢.٥ مليار دولار) التي تقتصر على إعادة رسملة المصرف المركزي. ومما زاد الطين بلّة، أنه تم التصديق على الخطة في اليوم الأخير قبل تحوّل حكومة ميقاتي إلى حكومة تصريف أعمال، مما يجعلها غير قادرة على تنفيذ أي من التدابير المنصوص عليها

وكما جرت العادة، بدأت الأحزاب التقليدية من مختلف الأطراف السياسية، بما في ذلك الأحزاب الممثلة في الحكومة، في التعبير عن مخاوفها العميقة بشأن الخطة المُصادق عليها تحت ذريعة متعبة وبالية هي "حماية الودائع". وعلى الرغم من النفاق الصارخ، فإن هذه الرواية مخادعة.  إن مسار العمل الوحيد الذي من شأنه أن ينقذ أغلب المودعين يكمن في الخطة ذاتها التي تعمل النخب السياسية وجمعية المصارف الآن على تخريبها

يقوم البديل المقترح على إنشاء "صندوق سيادي" يدير الأصول العامة ويغطي الخسائر المحققة. وبما أنّ هيكلية هذا الصندوق وجدواه غير محددين تمامًا، فإنه يمثّل، جهارًا، سرقة بمقاييس تاريخية

في العادة، يتم إنشاء الصناديق السيادية من قبل الدول ذات الموارد والسلع القيّمة للحفاظ على ثرواتها وإفادة الأجيال القادمة. وتنفق عائدات الاستثمارات المتولّدة عن هذه الصناديق على المشاريع العامة، مثل البنى الأساسية، ولدعم التنمية وتحفيزها. أما في لبنان، فإن الصندوق المقترح يفعل عكس ذلك تمامًا، فهة يستخدم الثروة العامة للأجيال الحالية والمقبلة لتغطية الخسائر الخاصة السابقة والحالية. ويتعارض هذا مع المبادئ الأخلاقية والإنسانية، وإنّما أيضًا مع مبادئ الرأسمالية.

وعلاوة على ذلك، فإن إنشاء صندوق سيادي من شأنه أن يسلّم فعليًا إدارة الأصول العامة في لبنان إلى هيئة مركزية مكشوفة سيسيًا. وبالنظر إلى مدى الفساد والمحسوبية في دولتنا المرتهنة، لا يسع المرء إلا أن يتخيّل كيف سيتم توزيع العائدات المحققة

وأخيرًا، تضع بعض مقترحات الصندوق الأصول العامة كضمان مقابل الديون المستحقة على الحكومة والمصرف المركزي للبنوك التجارية. هذا يعني أنه إذا فشلت العائدات من هذه الموجودات في تغطية الديون المستحقة، يصبح الدائنون مالكيها الشرعيين

لا تترك الأزمة المالية في لبنان مجالًا لأي بصيص أمل. واستنادًا إلى المسار الحالي، فإن توزيع الخسائر من شأنه أن يعزز ترتيبًا جديدًا ومتحورًا لتقاسم السلطة مثل الترتيب الذي أنهى الحرب الأهلية. ولكنْ، هذه المرة، سيكون المجتمع في وضع أكثر هشاشة

وعلى الرغم من كل ما سبق، لا يجب أن نتوقف عن العمل ونحن نحدق في الهاوية. يجب على جميع الذين يقفون ضد المظالم التي تسود هذا الفصل من تاريخ لبنان أن يتحدوا ويشاركوا في المهمة الشاقة لتحدي الوضع الراهن المفروض ورسم مسار جديد بعيدًا عن المصير المظلم المشترك. ولن يظهر الضوء في قعر الحفرة التي لا قعر لها سوى من خلال التنظيم السياسي الهادف الذي ينظم الحركات الشعبية ويحافظ على تعاون وثيق مع النواب والبيروقراطيين الذين يمثلون المصلحة العامة

يود المؤلفان أن يشكرا جون مكايب على ملاحظاته القيمة
 

البنك الدولي، كانون الأول. 2020. المرصد الاقتصادي للبنان: الكساد المتعمّد". مجموعة البنك الدولي
  وسيم مكتبي، وسامي زغيب، وسمي عطا الله. 2022. "تشريح الأزمة المالية اللبنانية: كيف ولماذا حدثت". مبادرة سياسات الغد (Anatomy of the Lebanese Financial Crisis: How2 and why it happened). (سيصدر قريبًا)
  مصرف لبنان. كانون الأول 2021. التعميم الأساسي رقم 1613
   توصّلت الحكومة اللبنانية إلى اتفاق على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي لحزمة بقيمة 3 مليارات دولار4
   مصرف لبنان، كانون الأول 2021. تعميم وسيط رقم 6015
  البنك الدولي، مؤشرات التنمية العالمية؛ مؤشر أسعار المستهلك وفقاً لتقرير الإدارة المركزية للإحصاء. نيسان/أبريل 2022. 6
  مجلس الوزراء اللبناني، نيسان 2020. "خطة الحكومة اللبنانية للتعافي المالي".7
   عطاالله، س.، مَهملات، م.، زغيب، س. أيلول 2020. "التستر بالكارثة: هل تدعم المساعدات الدولية النخبة بدلاً من المواطنين؟". المركز اللبناني للدراسات.8

سامي عطالله. أيار 2022. "الانتخابات النيابية اللبنانية: كيف فازت المعارضة؟" المبادرة السياسية 9
  القاق، ن. وسامي عطا الله. نيسان 2022. "البدائل السياسية في لبنان: رسم خرائط للمعارضة". مبادرة سياسات الغد.10
 جاد غصن، أيار 2022. "لماذا أغضبت حكومة نجيب ميقاتي المصارف في يومها الأخير قبل تصريف الأعمال؟". (بودكاست).11
  البنك الدولي. كانون الأول 2020. "مذكرة إصلاح الدعم". مجموعة البنك الدولي; العملات الأجنبية لمصرف لبنان.12
  منير مهملات، نيسان 2020. "الودائع التي أصبحت "مقدسة": الخط الأحمر الخطير للنخب اللبنانية". مجلة السياسات والسياسة الشرق الأوسطية.13
  جمعية مصارف لبنان. أيار2022. "موقف جمعية المصارف من إقرار الحكومة لاستراتيجية النهوض في القطاع المالي."؛ LBCI Vision 2030 (@Vision2030LBCI)، 23 أيار14 2022، انظر هنا https://twitter.com/Vision2030LBCI/status/1528832034021449735

  سامي عطا الله، ومنير مهملات، ووسيم مكتبي. 2021. "شراء العام في ترتيبات تقاسم السلطة في مرحلة ما بعد الصراع: أدلة من المجلس الإنماء والإعمار". مركز النمو الدولي.15

 

From the same author

view all

More periodicals

view all
Search
Back to top